نص

محمد ساري : الحديقة بأيد أمينة !

لا أحد مثلك يا أبي..

الحياة تبدأ في الحارة كل اثنين، تقويم نساء الحي مرتبط به، وهو الموعد الرسمي لوصول مياه البلدية للبيوت أولا بأول، يوم الاثنين ستسمع ضجيج ماتورات الضخ والسحب كبديل عن هاني شاكر، أقصد فيروز، لكنني استعرته أولا كيلا أجرح أوتارها وتغضب من التشبيه الذي مجازه مؤذ لفيوضات الصباحات الهادئة، بعناية السماء وطاقة فيروز. الحديقة بأيد أمنة، لا تقلق يا أبي.. لا تقلق.. نعم لم تعد تراها ولا تعد حيات شجرة الليمون حبة حبة، وتضع في حساباتك متى يحين نضوج هذه وتلك ومتى ستسقط هذه الحبة وتسرق تلك.. ومتى ستأتي ابنة الجيران لتستأذن بقطف (كم حبة) لأمها وشقيقاتها اللواتي يواصلن الوحام منذ 20 عاما، يا أبي..

الليمونة ذابلة يا أبي.. ليس بمقدور أحد رؤيتها مثلك.. لا الماء ينفع ولا شيء سواك.. أعرف سر جلوسك اليومي في غرفة الضيوف الغربية معطرا ( غربا ) ، وصوت قلبك بين دعاء وابتهال ومواويل برتمك الفلسطيني الشجي.. أنت تطل على الحديقة يا أبي، تسمع صوتك فتطرب، حتى البلبل الذي صار صديقك من رأفة عينيك به، يسأل جارته الأسكدنيا عنك، تجيبه ذابلة مكسورة القلب والخاطر، وهي الأقرب لغرفة نومك الغربية أيضا والأكثر وصولا لشباكها، هي تحمل مواويلك وبعض دمعك. فتسقي خاطر الشوق في كل الحديقة.. أين يرغولك يا أبي.. أينه؟! الحديقة تعرفه وتذكره جيدا وأمي والربع وسهل مرج بني عامر، وشقيقه الأصغر والأوفى سهل حوران والجاليات العربية في ألمانيا ومناسباتهم واحتفالاتهم وجلسات سمر وسهر البيت والأقارب على امتداد الدم واللحمة، والكل يحب الرجل الذي بنى نفسه بنفسه منذ كان يتيما باب حسن رحل مبكرا للسماء، ويا له من شهيد ويا لها من فلسطين.. ويا لك من أبي.. يا لك..

الحديقة متعبة يا أبي، لم تعد صحتك تسمح بالنزول والصعود المتكرر على الدرج، وأنت كنت وثابا تقفز كنمر ولست أبالغ ها هنا، عضلك للآن يشهد، لكن ضررا يصيب القدمين بالتقادم والجهد الذي لا تحمله الجبال، وهيولا الروح إذ يجف نهر! “يسأل أبي هذا الصباح عن الساعة بصوته الذي تقلده أمي وتقلده غدق: حليمة كم الساعة؟! فتجيب أمي وهي تعرف سبب السؤال. نام یا نایف نام لسا بدري على تشغيل الماتور وساعة المي.. هما محمد بشغلهم لحاله لا تقلق.. يجيب أبي: يعني ما صارت سبعة؟! أطل أنا من بعيد وأقترب، صباح الخير يا حجاج يا حلوين يا بركة.. لساتها ستة الصبح.. على السبعة بشغلهم ولا يهمك حبيبي”..

ألم أقل لك يا أبي، أننا بخير؟! لكننا لسنا بخير.. ولا الحديقة!

لست ضريرا يا أبي لست ضريرا

نحن فقدنا إبصارك..

اسمها حديقة أمي، لكنها لأبي، يتقاسمان تفاصليها والأزهار والأشجار والظل ومواء القطط والعصافير وحب الزيتون وقوارير الورد المرتبة حسب فنون اللا ممكن.. أمي في الحديقة يا أبي الآن تغسل حنينها بالماء والذكريات.. الماء يروي عطشا ما هناك.. لكن ثمة عطش لا يروى يا أبي.. لا يروى!.

لم يكسرني شيء في الدنيا، كما يفعل هذا العمى.. كيف يصبح أبي الذي دخل أوروبا مشيا وقطع المسافة بين فرنسا وألمانيا وسويسرا وألمانيا على قدميه، كيف يحتاج لفتى مثلي الآن، كي يصنع له خارطة في عين المكان؟! نؤمن ونحمد الله بالسراء والضراء.. لكن ثمة أسئلة مشروعة أطرحها على نفسي ولا أكتبها.. أخفي دمعي الآن.. والباص يهتز وهو يعبر شارع الأردن قادما من إربد، وأنا في طريقي للعمل. والحديقة ليست بخير..

وسرب الحمام يسأل عن الرجل الذي يعرف اسم قائد السرب ويناديه به، ويعرف جنس وأسماء بقية الفريق، حتى لو تغيّر التشكيل. كان يتبعهم نحو قرص الشمس وهي تغيب!

تصلني رسالة مبهجة فيها شكر وود من صديقة لي، وقد وصلها طلبها الذي استحال وصوله لولا تيسير الله، وجهد قليل لي، ويد أبي الطولى..

أمي تسقي الحديقة بالندى وماء ملامحها الصافية، وتسبح وتقرأ من قصيدة وديوان حديقة أمي الذي كتبه ابنها وأخي مهند ساري، ولما يزل غير منشور، لكنه ضمن كتابه الذي لا بد ينشر، فافعل يا أخي، فهذا ارتواء آخر! يعرف أبي أن مياه البلدية لا تروي الحديقة أبدا.. أبي كان يقرأ أسفاره ويغني لقطرات الماء وهي تنسكب فتشفى من الأملاح الزائدة. المواويل ملح الأرض.. وأنت رب هذا البيت والقلب. فاعذر نصي المتسرع واعذر غيابي.. كن بخير يا أبي.. هلا فعلت والحديقة وأمي؟!.

Views: 181

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى