كاتب

علي حرب.. النص والاختلاف والحقيقة

شغل “علي حرب” مساحة واسعة من السجال الفكري والجدال المعرفي، وشاغل كثيراً المفهومات أو المصطلحات التي اعتبر كل واحدة منها تشكل حلقة في سلسلة حلقات أوهام النخب، وأرباب الثقافة وسدنة محراب الفكر، مقتربا منها “مفككاً” جريئاً وناقدا صعب المراس.

يمثل المفكر علي حرب “التفكيكية” خير تمثيل في البيئة الفكرية العربية، ومنها أو من خلالها يمارس نقده لمفهومات طالما بقيت مكرسة بطابعها التقليدي الصلب، ومصطلحات بقيت أزمنة كثيرة وما زالت، تقيد الفكرة حولها وتمارس سطوتها وسلطتها في أية محاولة لتأويلها أو تفكيكها، لكن حرب أخذ يقترب منها بسلاح التفكيك، ناقدا لذاتيتها وأحاديتها، وإطلاقيتها، فالحقيقة ليست واحدة، إنها حقائق والمعرفة كذلك وصولا إلى المثقف والحرية والهوية والثورات والبُنى الفكرية والسياسية والأيديولوجية والدكتاتورية والأصولية ومتاريسها التي اقتحمها بصبر الناظر المدقق والناقد المحقق .

بدأ علي حرب نقده أو تفكيكه من كتلة معرفية كبرى وأساسية، تنبثق عنها أفكار شتى، وتتمحور حولها دلالات كثيرة، تشكل مثارا للجدل ومحركا للسجال، إنها “الحقيقة” ناقدا لها وكاشفا لأسئلتها ومستدرجا إياها إلى حقل التأويل، في ثلاث كتب هي “نقد الحقيقة” و “أسئلة الحقيقة ورهانات الفكر” و “التأويل والحقيقة”.

وحين أراد أن يميز “نقد الحقيقة” أو يعرفه، أو يكشف نواياها فيه، قال إن “الغاية هنا هي فضح ألاعيب الحقيقة التي يمارسها خطاب الحقيقة”، موظفا لأجل هذا الكشف سلاح النقد الذي باستطاعته أن يبين “أن الكلمات ليست بريئة في تمثلها لعالم المعنى وأن المنطوقات لا تتواطأ مع المفهومات وأن الأسماء لا تشف عن المسميات” كما يقول.

إنه – حتما – لا يصادر الحقيقة، ولا يعمل على نفيها أو رفضها، إنما أراد أن يثوِّر بؤرة المسكوت عنه حيالها، باعتبارها ليست “جوهراً” أو “أصلا” ثابتا أو “يقينا” يثقل عقول الكثير من الذين اعتنقوها دينا أو مارسوها عبادة، أو تقمصوها طقساً وجوديا لا يداخله الشك ولا يقترب منه نقد ولا يجترئ عليه إلا ممسوس.

يلج “حرب” إلى نقد الحقيقة وتفكيكها من باب تفكيك الاختلاف، موطئا لذلك بجملة من المعرفيات التراثية التي تقيم الاختلاف مقامه اللائق، وتجعل النظر والرأي والاجتهاد في الفقهيات والأصول صوابا وإن تعدد هذا الصواب، وبذلك تبدو الحقيقة “لا حقيقة” واحدة، بل متعددة ومفككة ولا يُقطع بحقيقتها قطعاً واحدا وقولا واحدا.

إنه ينسف كتلاً عملاقة من اليقينيات التي ألجأت أفهام الناس – عامةً ونخباً – إلى أوهام مفترضة واجتراء على الحقائق بجعلها حقيقة واحدة تتنازعها الأمة.

أراد “حرب” أن يؤسس لمنطلقات حقائقية تقبل الاختلاف في الرأي والنظر في الصواب الذي تلتزمه جماعة أو مجتمع واللاصواب الذي تعتنقه أخرى.. وكل يقبل بهذه القسمة المعرفية التي تتطلب نضوجا في الوعي والتفكير، كما تتطلب من النقاد والمفكرين تفكيكها لتوضيحا وتبيانها وتيسيرها للعامة.
ومن الحقيقة إلى النص..

النص الذي يعتبره “حرب” يسع الجميع دون استثناء أحد، يجد فيه كل أحد ضالته المعرفية، وبرهانه إلى حقيقة التي يعتنقها ودلالته إلى وجوده كذات وفكرة، منبها إلى الاختلاف في النص، الاختلاف المرفوض شرعا ومعتقدا، والمقبول واقعا وعقلا، داعيا إلى الانفتاح المتعدد والمختلف وتجاوز القراءة الأحادية للنص، استنادا إلى أن “البيِّنة” كبرهان معرفي نصي، تتطلب الاختلاف في الرأي والقول.

Views: 35

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى