مكان

م. رفقة يوسف : البيت، ما هذا الكون الصغير ..؟!

لا يبدو البيت عند حدود الكلمة ودلالتها الوظيفية والاستعمالية، إنه أكبر من ذلك وأوسع، بمعنى أنه أكبر من كونه بيت أو منزل أو نزل، أو مجرد غرف للنوم أو جدران تمنع البرد والحرارة واللصوص والحيوانات وتوفر مستوى جيدا من الأمن على الحياة والممتلكات ..
ذلك هو المعنى التقليدي للبيت، والذي كان يمكن أن يكون مقبولا في عصر سالف، حين كان الإنسان لا يتعدى طموحه البشري أن يوفر لنفسه ملجأً آمنا من كل شيء أو خطر قد يحيط به.
البيت فلسفة بعيدة، تذهب بنا إلى مكان يشبهنا، يشبهنا تماما، على ما لهذه العبارة من دلالة، فالبيت هو هوية الإنسان الأولى، قبل أن يصبح له وطن، ففي عصور غابرة كانت الغابات أوطانا، دون أن يكون أسمها أوطان، وكانت الجبال والسفوح والسهول كذلك، وكانت الأشجار بيوتا دون أن تسمى كذلك، فجذوعها وأغصانها هي التي وفرت له في أول الحياة ما يشبه البيت.
كانت البيوت بهذا الشكل هي هوية الإنسان الأول، تعكس روحه و قدراه وطموحه ومعاني الحياة بالنسبة له، لا شيء أكثر ولا أعمق من ذلك، إنها الحياة البدائية والبيت البدائي، ومنه بدأ الإنسان عبر عصور كثيرة يغير أنماط سلوكه، ويعدل مسارات حياته وخياراته، فتغير شكل البيت.
لا أريد أن استعرض كثيرا تاريخ البيت وتطور المنزل، فتلك أفكار مبثوثة في التاريخ البشري، لا تخفى على أحد، إنما الفكرة هنا هي الفلسفة الحقيقية للبيت اليوم، باعتباره تجاوز مفهوم البيت الوظيفي الضيق، إنه “كوننا الأول”..
لم يعد الإنسان هو الإنسان زمان، ولم تعد الحياة هي الحياة ماضيا، بل لم يعد كل شيء كما كان، وبعبارة أكثر صرامة وجدلا، لقد تعقد كل شيء، النفس الإنسانية أصبحت أكثر تعقيدا، والحياة كذلك، كل الحياة صارت كذلك، ومع هذه الحالة من التعقيد أصبح البيت أيضا فكرة تتبع تعقيد الإنسان وحاجات الإنسان الحياتية، صار معقدا بالمعنى الحقيقي للكلمة، فما كان مجرد جدران من الشجر والأغصان والطين، صار اليوم فلسفة كاملة.
إنه الانتقال الحقيقي من الشعور بالأمن والحاجة للنوم إلى الشعور بالاستقرار والراحة والاستجمام وتنظيم الذات وترتيبها وإكساب الروح طقسا مشابها لها في كل ما يحيط بها من فوضى وتعقيد وحتى في ظل ما يحيط بنا من أزمات وحروب وما نعيشه اليوم من أزمة “كورونا” التي ألجأتنا إلى عالمنا الصغير وكوننا الصغير، فصار هو عملنا وراحتنا ونومنا وسكينتنا، لذلك فهذه الحالة من “الحظر” على سبيل المثال يجب أن تحرك لدينا سؤال البيت، وفلسفة البيت مجددا وكثيرا، سؤالا يبدأ من لحظة أنه لا يكفي أن نعرف عن أنفسنا وعقولنا من خلال دواخلنا، بل أن نعرف عنا من خلال ما نعيشه ونعيش فيه ونبتكره من أدوات وبيوت وفراغات وأثاث وتشكيلات في الكتل الإسمنتية، حتى لا يبدو كل ذلك عاملا ضاغطا على أرواحنا مع ما نعيشه من ضغوط الواقع والحياة.
التراس واتساع الباب وشكل سلم البيت وأرفف الكتب والخزانات والمناضد وطاولة المائدة والمرايا واللوحات والحديقة الجانبية وأشجار الزينة وغرف النوم والجلوس وحركة الهواء وحركة الشمس .. وغير ذلك كثير أصبح اليوم يشكل النقطة المرجعية الرئيسة لشعورنا تجاه أنفسنا أولا، لذاكرتنا وذكرياتنا وخيالنا وإلهامنا ودهشتنا واستغراقنا في فهم ما نريد ولماذا نريد.
كنا نريد بيتا للعيش فيه، وصرنا نريد بيتا للتفاعل معه وفيه، ولنعرف أنفسنا فيه أيضا، فإنه كما تقول عالمة النفس والبيئة الشهيرة سوزان كلايتون “بالنسبة لكثير من الناس فإن البيت يعد جزءاً من تعريفهم لذواتهم وامتدادا لأنفسهم”، هذا هو البيت المعاصر، البيت الذي يشبه الفلسفة، أو انه هو فلسفة تماما، فالصينيون القدماء قبل 3 آلاف عام اكتشفوا “الفينج شوي”، إنها الفلسفة التي تلاحظ علاقة الأشياء وعناصر الطبيعة وتأثيرها على الإنسان، من نار وتراب ومعدن وماء وخشب.. حتى أصبحت هذه الفلسفة قيمة من قيم تشييد البيوت.
إنه الانتقال بين بيت الفلسفة إلى فلسفة البيت بجدارة عصر التحولات الكبرى.

Views: 20

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى