النبطي المنشود.. رواية تفترس الشغف
مروان العياصرة
كان يجب أن يطل علينا هذا النبطي المنشود لكي نتعلم أن البترا غير ما نعرف.. أو أنها أكثر مما نعرف، إنها تصدع كثيرا بنبوءات العلم وتجليات الحضارة.. من حق أولئك الأنباط العظام الذين أصابوا الصخور بالتعب أن نحسن تأويلهم.. وهم يوغلون في التضاريس الصعبة لاكتشاف الأعالي ورصد الأفق..
كانت دائما، ولازالت تحسن الكلام، وصناعة الدهشة الهاجعة في الحجر، وإن لها بلاغة فائقة تلدغ الكتاب والشعراء والرواة من كلماتهم واستعاراتهم وكناياتهم.. ثمة لغة صخرية عميقة جدا وضد غريزة الإفناء والإبادة
والاندثار..
تصنع دائما أخيلة للفن والكتابة.. للشعراء والرواة، رواة الأماكن التي تفترس الانتباه والحنين والشغف.. إنها من طراز السحر الذي لم يخلق له الزمن تعويذة بعد.
البترا..
اسم يعني ما يقول، اسم يتقن معناه إلى آخره، في الكتب والروايات وعلى جدران الصخور وفي الذاكرة ..
ماذا عن الكتابة بصوت مرتفع،
يمتلك رولان بارت تخريجا جسديا لهذا الشعور وهذه الكتابة، إنه تماما ما حلله هومي بابا باعتباره فن قيادة الجسد وتحويله إلى خطاب تفاعلي..
وعند صفاء الحطاب،
تكتب أيضا وقوفا – على ما كان يحب أرنست همنغوي- تقف في البتراء لكي تقول إن الكتابة وقوفا، هي فن قيادة المكان وتحويله إلى خطاب، وفي الخطاب سؤال، أو أسئلة، والذين يطرحون الأسئلة دائما بحسب جوستان –
الأكثر خطرا..
في النبطي المنشود أسئلة كما لو أنها خيل جامحة، تصهل في حواسنا، وشغفنا.. أسئلة سريعة مكتوبة، وأسئلة علينا أن ندخر من أجلها هدوءا كثيرا وشغفا أكثر، أسئلة وعرة مختبئة في تضاريس المكان الوعر..
عابرة للكتابة والعناوين والسرد.
أحيانا أقول إن معمر وسونيا ليسا شخصين، إنهما تمثل جسدي لعلاقة ما، لمعنى ما، أو ربما هما ذريعة جيدة لمن يريد أن تسكنه الأماكن أكثر مما يسكنها، لكنهما شخصان على أية حال..
يحاولان أن يبرهنا على أن رجلا وامرأة حاصل جمعهما ليس اثنين فقط بحسب ما تقرره الرياضيات، بل هما بحسب ما تقترحه الرواية أشياء أو أفكار كثيرة مثل الحب .. مثل الزمن الماضي والحاضر والتاريخ والحضارة والتراث .. مثل الجغرافيا وتضاريس الدهشة وخطاب الأمكنة الفصيحة.
كنت أريد أن أسأل معمر عن سونيا،. عن المسافة بين المحروسة والبتراء، كم تبلغ من تشابه وألفة وحب وحنين أريد أن أسأله عن خيط ضوء نحيل في الرواية هل يريد أن يقود انتباهنا إلى تلاقي حضاري مزمن، من الصعب أن تتجاهله عربات الذاهبين إلى الغد .
الأسئلة
يمسك معمر بيد سونيا وينظران إلى السماء .. ويتجاهلني ربما، أو أنه مع قليل من حسن الظن لا مجال يبدو ! تئن من ثقل التأويل ..
فاخترت أن ألجأ إلى سؤال البطل الموازي، عن البترا .. والرواية وعن سونيا إذا أحب أن يوشـوشـنا بعض الأسرار.. فغالبا أبطال الروايات كما يقول الراحل خيري منصور يتنفسون ويعرقون، وبمرور الوقت يثقبون أغلفة الكتب لكي يعودوا إلى المنابع.. مثل الدكتور مأمون النوافلة الحاضر في الرواية ..
بعض الأمكنة .. كالثياب المهجورة تشتاق إلى الامتلاء.. يقول أحدهم
التفكير بتحويل مكان إلى جسد، أو إلى كتاب، أودراسة أو بحث من أجل الامتلاء به تلك مهمة شاقة وصعبة. مجرد هل أرادت صفاء الحطاب تدجين المكان، أم تدوينه أم تدشينه من جديد برؤية جديدة لا يمكن الإمساك بها إلا من خلال ما يقوله العلم وما تقترحه الدراسات من أفكار ومفاهيم وشروحات وتأويل.
انظري إلى السماء يا سونيا..
هذا عنوان مواز، لـ النبطي المنشود، فلكل عنوانه في رواياته التي يقرؤها، وأنا لي هذا العنوان المنسوج من أكثر الأشياء شغفا ..
معمر وسونيا والسماء، والحب، والشغف والمكان الذي يزداد إصرارا على الصمود والبقاء داخل الذاكرة وخارجها
على السواء
“سنعيد رواية المكان
وعلى غراره تريد صفاء الحطاب أن تقول: أنا صوت المكان، نحن جميعا صوت المكان.. وحين نفقد هذا الصوت، سنسير حفاة تلدغ أقدامنا الحصى المسنونة والشوك النافر في الطرقات الطويلة، لأن من لا هوية مكانية له، لا طريق له، ستخطئه كل الدروب، وسيمكث تائها في الفراغ اللعين.
هذه الجملة لم تكتبها صفاء، لكنها جعلت أحد أبطال روايتها يقولها، كي تتفرغ هي لتقول لنا إن المكان رواية يجعل قراءتها درسا في الحضارة والثقافة والتاريخ والعلوم.
قال أندريه فوزينسكي : إنا صوت الحرب
Views: 17