رمزي الغزوي : عنقود الثريا
رمزي الغزوي
يا أيتها العصافير النفورة الخائفة حتى من همس ظلها على الأرض. أيتها الكمنجات الطائرة في صحن الفجر، المشتاقة لعسل بات قاب قبلتين. تعالي قبل أن تحمرَّ عين الشمس، وتحرق عينك.
هيا لا تخافي من هذه الفزاعات التي ينصبها أصحاب الكروم بين الدوالي، هي ليست إلا خشبة بلهاء، غبية، يلبسونها ثيابهم وقبعاتهم المهترئة، وربطات أعناقهم الملونة الحالة على التقاعد. لا تخافي، حتى لو حركتها الريح وأحدثت ضجيجاً، بل اقتحميها، وخذي استراحة في صيوان أذنها. ولا تقولي إني أفشيت لك حيلة الفزاعات. صباح العنب، أيتها العصافير.
هي الكروم، تعلن عن نضجها الكامل تحت ضربات صيف قائظ، فرض علينا شروطه التموزية وقلب حصرمنا عناقيد تقطر عسلاً في غفلة منا. فتعالي أيتها العصافير الصديقة، واغمسي منقارك في حبة عنب أتخمتها الحلاوة. اشربي حد الإرتعاش من عنبنا، لقاء تغريدة تطبعينها في ليل عاشق، علَّ لحنك يمحو شيئاً من قبح عالم بات خانقاً فوق العادة.
هو العنب إذن. صوت الذهب المتكور بين عروق الدوالي الخُضر ككنز دفين. أو الدوالي مثل الأمهات الطيبات اللواتي لا يأمن على قطوفهن شمساً أو ليلاً؛ فتلف الواحدة منهن عناقيدها مثل رضيع أشبعته ونام. فمن منكم لحظ ذلك الإشتباك الجميل بين دالية مكتظة، وقطوف عنبها المرصوص؟!.
هي الكروم أيها العاشقون. آوان السمر والسهر تحت عرائشها المشرعة لنسيم يتسلل من بحر بعيد. هي الذكريات الراسخة عن عناء لذيذ، كنا نقطفه مع أول صوت المؤذن، وأول الندى، فننفض عنا بقايا النوم، ونشرع بمقصات صغيرة، ننتقي أزكى العناقيد ونقطفها كزهرة، وبعد أن نستريح قليلاً، نشق لقمة خبز صغيره من رغيف ساخن، ونلفّ بها حبة عنب باردة، غسلها الندى، لفاً رشيقاً متناغماً، يكون فطورنا الذي لا ينسى. فصباح سندويشة العنب الصغيرة!.
بيوتنا كانت وما زالت لا تستقيم بلا تثني الدوالي وتمددها كجدائل الصبايا على سطوحها، وكم كنا نعرِّش لها العرائش، ونهيئ لها مكانا كي تتمدد، وحين كنا ننام تحت شعر الليل الفاحم، ونتتبع نجومه الناعسة، كنا نتحسس مواطن ثآليلنا المفترضة، عناداً بتخويف الجدات اللواتي يمنعننا أن نعدَّ النجوم، ثم نمعن بقيس حلاوة الثريا من فوقنا، بخصلة عنقود يتدلى، فيا طيبك من ليل مبتهج بالعنب!.
Views: 13