نص

محمد المشايخ : الأدباء والنسيان

في وسطنا الأدبي، أسماء كبيرة يوقعها النسيان في مآزق كثيرة، كان أطرفها أن أديبا أشعرته زوجته بعد منتصف الليل أن درجة حرارة صغيرهما فوق الأربعين، وأنه مريض جداً، الأمر الذي يتطلب نقله للمستشفى، واتفقا على الانطلاق بالسيارة، وبعد أن قطعا 12 كم،ووصلا الطوارئ، نزل كل منهما مسرعاً باتجاه المقعد الخلفي لإنزال الطفل المريض، لكنهما دخلا في بحر الدهشة، لأنهما نسياه في المنزل، وعادا ثانية لإحضاره دون أن يعاتب أي منهما الآخر لقاء النسيان.

لن أتطرق هنا لمن أصبح النسيان عندهم حالة مرضية:”الزهايمر”، على غرار ما جرى مع الأدباء: فخري قعوار، بدر عبد الحق، أ.د.عبد الرحمن ياغي، يوسف أبو العز، وليد البدوي، وغيرهم، بل سأتوقف فقط عند الحالات التي عانى منها بعض الأدباء أفرادا، وجماعات.

ولأن الكتاب بشر، فإن في وسطنا الثقافي أدباء ينسون أنفسهم دون طعام، أو ينسون أين أوقفوا سياراتهم، أو ينسون مفاتيحهم وحقائبهم وكتبهم ومخطوطاتهم في سيارات أو في أماكن عمومية، بل إن أحدهم نسي زوجته(قبل انتشار الهواتف الخلوية)، فقد انتقلت معه من مدينة إلى أخرى لشراء أغراض تهمهما،وبعد أن اشتريا كل شيء، تذكر أنه لم يشتر علبة سجائر، فقال لها : “انتظريني هنا مع الأغراض ريثما أحضر السجائر”، وبالفعل، اشتراها، ولكنه بدل أن يرجع لزوجته، رجع باتجاه مجمع السيارات عائداً بالباص إلى منزله في المدينة الأخرى، ولما قرع الجرس، ولم تفتح له الزوجة، تذكر أنه نسيها، وعاد مسرعاً لإحضارها .

من أطرف ما يـُروى عن مكتشف الجاذبية الأرضية “نيوتن”، أنه كانت لديه قطة، لم يكن يحلو لها القيام بحركات تشعره أنها راغبة بمغادرة غرفته إلا في الأوقات التي يكون مشغولاً بها في تحليل نظرياته العلمية، ولكي يتخلص من هذا المأزق الذي كان يؤدي إلى قطع حبل أفكاره عدة مرات في كل ليلة، صمم ثقباً في باب الغرفة يتيح للقطة دخول الغرفة ومغادرتها في أي وقت تشاء.. ولما أنجبت تلك القطة ست قطـط قام”نيوتن” بتصميم ستة ثقوب في الباب نفسه لكي تخرج منها القطط الست وتدخل في أي وقت تشاء، وهكذا نسي مكتشف الجاذبية (والذي لم يكن عضوا في الرابطة)أنه يمكن لعشرات القطط الدخول والخروج من ثقب واحد دون الحاجة لتصميم ثقوب بعددهن في الباب نفسه!

وكان أحد الباحثين قد نشر في أحد الملاحق الثقافية العربية قبل سنوات موضوعاً قال فيه إنه أمضى عامين، وهو يعمل على تحقيق مخطوط أدبي تراثي، حصل عليه من أحد مراكز المخطوطات العربية مقابل رهن مالي كبير، ووضع المخطوط الأصل، مع التحقيق في مغلف داخل سيارته، ولما أخبرته زوجته أنها بحاجة لخبز “شراك”لإعداد”المنسف”، توجه بسيارته نحو الفرن، وقبل أن ينزل منها، أنزل معه المغلف، وأخذه بمعيته للفرن، خشية أن يقوم لصوص بسرقته، أو بسرقة السيارة وما فيها، وبعد أن اشترى ذلك الصنف من الخبز، عاد للسيارة، ووضع المغلف فوق صندوقها الخلفي، وفتح بابها الجانبي وأدخل الخبز منه، وركب بها وقادها متجها للمنزل، ولما وصله،بحث عن المغلف داخل السيارة وخارجها، فلم يجده، فتذكر أنه لم يدخله فيها، بل أبقاه على صندوقها الخلفي، وأدرك أنه سقط بمجرد تحرك السيارة، فعاد مسرعاً إليه، وهناك، تأكد من أن الريح العاصفة قد أطارت المغلف وما فيه من أوراق في غاية الأهمية، باستثناء عدد قليل منها سقط على الأرض مبتلاً بالماء، فاستنجد عبر الملحق الثقافي بمن تكون الريح قد أوصلت أوراقه إليه .

آخرون من الأدباء نسوا جوازات سفرهم، وكان ذلك على النحو التالي: سافر وفد أدبي يتألف من 15 كاتباً لإقامة أسبوع ثقافي في قطر عربي شقيق، وعند العودة، وفي مكتب الحدود، تبادل اثنان منهما الجوازات عن غير عمد، حيث أخذ كل منهما جواز سفر الآخر، وبعد شهرين من هذه الحادثة، اضطر أحدهما للسفر ثانية لقطر عربي شقيق آخر، وفي مركز الحدود، سلم جواز السفر للموظف المختص، وجلس ينتظر، ومضت ساعتان وأكثر، دون أن تتم ينادى على اسمه، وكل الذين جاءوا قبله وبعده تسلموا جوازاتهم إلا هو، فسأل عن جوازه، فقال له ذلك الموظف أنه لا يوجد لديهم إلا جواز سفر واحد لم يتسلمه صاحبه (ولما عرفه تذكر صاحبنا أن صديقه قد أخذ جواز سفره في آخر سفرة لهما)، واتصل بزوجته لتذهب لمنزل ذلك الكاتب الصديق، ولإرسال الجواز مع إحدى السيارات المتجهة لتلك الحدود، وكان الكاتب غير المسافر، لم يفتح جواز سفره لمعرفة الخطأ الذي حصل، وبذلك تبادلا الجوازات الصحيحة هذه المرة، وأكمل صاحبنا سفره .

وكثيراً ما سافر أدباء لاستلام مخطوطات أو كتب أو وثائق من فروع لاتحادات الكتاب العربية، ومن محافظة لأخرى، وهناك ينسون ما جاءوا من أجله، ثم يغادرون بعد الضيافة، دون حتى “خفي حنين”، وعندما يعودون لمحافظاتهم يكتشفون أنهم عادوا دون الغرض الذي سافروا من أجله .

وثمة من يقود سيارته ورخصتها منسية في البيت حتى يذكره بها رجل السير، وهناك من يستمر في قيادة السيارة حتى تفرغ من البنزين أو الزيت، فتتوقف بشكل مفاجىء، ولدى حضور “الميكانيكي” لإصلاحها، يكتشف أن الحق على النسيان !وهنالك أدباء يتواعدون على الالتقاء في ساعة محددة، من يوم محدد، في مكان محدد، فيذهب أحدهم قبل الموعد بيوم، أو بعده بيوم، وقد يذهب لمكان غير الذي اتفقوا على الالتقاء به، وثمة أدباء يلتزمون بإقامة ندوة في مؤسسة ثقافية أو تربوية، وعند موعد انعقادها، يحضر الجمهور، وهم لا يحضرون، ناسين أن عليهم مهام ثقافية!

ذهب أحد الكتاب للبنك لاستلام راتبه الشهري، فطلب منه أمين الصندوق هويته، وسلمه الراتب، بعد شهر عاد لاستلام راتبه عن الشهر الجديد، فطلب منه أمين الصندوق هويته أيضاً، ولما بحث عنها لم يجدها، وقبل أن يغادر الصندوق دونما راتب، قال له أمين الصندوق: “هذه هي هويتك، لقد نسيتها عندي منذ أن استلمت راتبك في الشهر الماضي” .

من طرائف النسيان الجمعي وليس الفردي لدى المثقفين وغيرهم:قبل انعقاد اجتماع المكتب الدائم للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب بتاريخ4/7/2004برئاسة الأديب الدكتور علي عقلة عرسان(باعتباره الأمين العام للإتحاد ورئيس اتحاد الكتاب العرب في سوريا آنذاك) وبدعوة من رابطة الكتاب الأردنيين التي كان يترأسها أ.د.أحمد ماضي، قبل ذلك بيومين، استقبل د.علي عرسان وفود اتحاد الكتاب العربية القادمة من إفريقيا، واستضافها في أحد فنادق دمشق، ثم قدّم لكل وفد سيارة، وتحرّكت السيارات معا من دمشق باتجاه الحدود السورية الأردنية(نصيب: جابر)،وهناك، اكتشف أحد الوفود أن جوازاته ظلـّت في الفندق في دمشق،يومها ظلـّت الوفود العربية القادمة من قارة آسيا تنتظر في عمان، وظلت الوفود الإفريقية مع الوفد السوري تنتظر على الحدود، ريثما تحرّكت سيارة من الحدود نحو الفندق في دمشق، وأحضرت الجوازات، وعادت للحدود ثانية.

لم تنته القصة بعد..

كان الفندق الذي انعقد فيه الاجتماع، قد منع الخطاط المكلف من الرابطة من تعليق يافطة بطول 10أمتار وعرض متر ونصف بخصوص الفعالية الفكرية المصاحبة للاجتماع(الثقافة والمقاومة والعولمة في الوقت الراهن)بحجة أنه ممنوع دق المسامير، ولا البراغي، ولا استخدام “الدرل” لثقب جدار قاعة الفندق،ووعدتني إدارة الفندق بتكليف أحد العاملين فيه باستخدام نظام الأسلاك المـُدلاّة من السقف لتعليق اليافطة بعيدا عن الجدار، بدلا من ثقب الجدار وتعليقها عليه.. يوم ابتداء الندوة، دخل المتحدثون والجمهور القاعة يتقدمهم الأمين العام للإتحاد العام للأدباء والكتاب العرب د.علي عقلة عرسان، ورؤساء وأعضاء الوفود العربية، دون أن تكون اليافطة معلقة، وتأخر انطلاق الندوة أكثر من ساعة لأن عامل الفندق كان قد نسي تعليقها، ثم دخل في إجازة، فتم استدعاؤه على عجل، وعلـّق اليافطة أمام الجميع، وبسرعة جرت مراسيم افتتاح الندوة ليبدأ الباحث عبد الله حمودة بتقديم أولى أوراقها..مع ملاحظة أن اليافطة هنا كانت مهمة لغايات التوثيق والتصوير.

Views: 5

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى