سليمان قبيلات : ذيبان .. هنا يصغي المارون لنداء الحجر
ذيبان، التي كانت عاصمة ملك مؤاب، قرية معلقة على التلال، ظهرها الى وادي الموجب الذي تقيم فيه المياه إقامة مفرطة. خلعت ثوب الحياد للتخلص من بؤسها بعدما رفضت الاستسلام.
بيوتها معلقة على السفوح المتفشية في جغرافيا قاسية، ظلت على الدوام مصدر إبهار لأشباه قرى تجاورها في المعاناة.
يقول ذيباني شاب: يشعل انتماء الكركي والسلطي لمكانيهما لديّ غيرة تحرك أسئلة السحر الذي تبثه الجبال العنيدة في قلوب أهل هاتين المدينتين الحاضرتين.
في ذيبان اليوم اصطدمتْ الوجاهة الاجتماعية الحقيقية بحتفها ما إن لفظت القريةُ أنفاسها مع أٌفول عقد السبعينات من القرن الماضي، في تزامن مع طفو هيلمان النخب الطارئة على مشهد النجوميّة الاجتماعية.
قذفت مقولة “بالمال يصنع كل شيء” بطبقة طارئة إلى المجد الزائف، فغدت وشما ينغرز رويدا رويدا في أعماق المجتمع فيهتكه مسنوداً بسياسات عمّقت الإفقار والتجهيل وتغييب قيم المجتمع، حتى صارت مواكب الأعراس وسهراتها تقام على موسيقى تفخيم السائد على رداءته، في إمعان يشبه موسيقى دعاية تجارية تؤديها فتيات يتمايلن غنجاً لترويج محاسن بضاعة رديئة.
عرفت ذيبان التلفزيون وأُشركت عنوة في دفع ضريبته، فاتخمت مسلسلات تمجد سيادة السادة، وتابعت مسلسلات أخرى فاجأتها في أنّ عليها أن تتغير لترقص على إيقاع الوهم ليلاً، بعد ممارسة مشاغلها نهاراً.
في ذيبان اليوم لا يتحسَّر على قَدَر المجتمع، الذي صار بسبب التغريب لا يفهم ذاته، الا قلة تنتسب للماضي. كان الناس هنا يشعرون بالقهر حيال الهبوط على تنوعه، وكانوا يحتفون بالشجاعة والأنفة حين كان المكان يُنسب إلى البطولة والرجولة.
لقد تعرّفت إلى رجال كبار يكظمون فقر حال ويسافرون في الذاكرة ليستعيدوا لحظة كانوا أسيادها، بينما يترغدن اليوم، طارئو نعم لا يكفيهم ما يكفي فيغرقون المشهد في حصاد خواء وتسطيح لا يعرفان ضفافا.
في بواكير شتائها هذا، تكتب ذيبان مرثاة أرض وهادها وعشاقها وهم يرددون فرائض العشق على أطلال ذيبون الأثرية المنزوية في الركن القصي للبلدة، لتبدو مثل محطة اعشوشب ظاهرها حتى غدت طللاً بعد اندثار الطريق.
تعلم ذيبان علم المتيقن، أنها تنام على مكان تليق به الرفعة، بدل خرس اليوم الذي كسّر أقلامها ومجاديفها، في خضم بحثها عن مساحة عذرية للحكاية والتنقيب عن أغوار إبداع المكان.
وبصفتها مكانا محرّضاً على التعبير عن القلق والتوتر والعبثية والانكشاف من الداخل، تعلن ذيبان أنها إرث مرتحل عبر الزمن من فضاءات لم تعرف التورية لتصبح بؤرة للحلم والميول والرغبات.
من هذه البلدة التي تتاخم خدّ الصحراء شرقا وقسوة الجغرافيا المطلة على “بحيرة لوط” غرباً، طرد الملك الذيباني المؤابي ميشع بن كموشيت غزوة يهودية، ومن هنا مرّ أبو ذر الغفاري في رحلة الإياب الى الجزيرة الحالمة بإمبراطورية الفتح، ومنها مرّت جيوش صلاح الدين الأيوبي لقتال الغزاة في الكرك المتكئة على الشرفة الجنوبية لوادي الموجب، وهنا دوت الحناجر بنداء: الله أكبر لنصرة هبة الكرك في وجه الضيم التركي.
هنا في ذيبان، يصغي المارون الى نداء الحجر والتاريخ وهمهمات المكان في نشيجه المُحمّل بشحنة دلالية آنية تتساوق مع حالة لا شعور بسجن يبدو كدلالة تعاكس المألوف.
هنا في ذيبان لا تعني العودة إلى التاريخ احتفاء بالحدث أو المكان بصفته ماضياً سيأتي، ليواجه الصيغ الرسمية للتاريخ في تصويرها تاريخ المنتصر، الذي يحرص على محو ذاكرة المهزومين وهزائمهم.
هنا في ذيبان، ثمة من يوقظ التاريخ بأوجاع وانفعالات ليوظفها في مغادرة الزمن لتصبح البلدة أولى ضحايا الهلع من وحل القائم في نفيه للمهمشين والمقصيين من المشهد، على الرغم من كونها جديرة بحمل الأوسمة أو أقلها الفوز بلقمة ليست مغموسة بمتاعب تهد الجبال.
Views: 9