مروان العياصرة: حيدر حيدر.. سارق نار المجوس
وكان صباحاً مضيئا…في سماء صاحية، النوارس وهي تخفق بدت كأنما تعلن عن غبطتها بذلك الطيران الأبيض الواهن، وفوق الأعشاب وأوراق الدغل، كان الندى يتلألأ تحت شمس خريفية
بهذه البداية المضيئة، يفتتح حيدر حيدر “وليمـة لأعشـاب البحر”.
لكنني سأتخيل القـارئ، مكتشف الكهوف، يقـف عـلى بـاب الكهف حاملاً بيـده مشعلاً، بالكاد يضيء له أول الـدرب ثم ما يلبث أن تبتلعـه العتمة في سرديـة موغلة في التشعبات والإحـالات والاشتباكات مع عالم يصـادر أفـراح الناس، ويعلـق ابتساماتهم عـلى جـذوع شجر يابـس ويلقـن الإنسـان دروسا في القلق والخـوف والتوجـس.
والقـارئ الذي لا يعرف هـذا الكاتب الذي جعـل مـن كتبـه مستوعبات لهمـوم النـاس وأحـزان البشر، وعذابات الإنسانية المرة، سيتعرض حتمـا لكثير من الاصطدامـات وسـتأكل قدميـه الوعورة المباغتة في النصوص تمامـا مثـل «بنـت الوليمـة» وأولى شخوصها والـتي أخـذت «تتباطأ هابطـة بـيـن أجـم الدغـل القصير وكتـل الصخـور الرماديـة حيـث اختفـت هنـاك فجـأة.
ولكي يعرفـه أي قـارئ، عليـه أن يستمع إليـه وهـو يحـدث عـن نفسه قائلاً: «أسجل هنا (…) أنني كاتـب اليأس والقسـوة، والنهـار المهـزوم بالظلمـة. لـكي لا يتفاجـأ بكثافـة القسوة والعتمـة الـتي يـعـرض قارئیـه كـمـا تـعـرض لهـا هـو نفسه في سجالاته مع السياسة والواقـع والحياة بكل تجلياتهـا المخيفـة والمريبـة.
منذ أن بدأ يتشكل لديه الوعي بالأحداث والأفكار ، وجد نفسه أمام خيار وحيد، أن يقبض على جمر الإبداع حتى أضاءت يده بكثير منه، منذ حكايا النورس المهاجر، إلى الزمن الموحش الرواية التي تغص بتجربة الهزيمة كفعل توليدي لأفكار روائي يعترف بأنه ينفر من الكذب والزيف والتبشير الخادع بالفرح والغبطة والسعادة المفقودة، مصدرا حكما مازالت قابليته متاحة، بأن الزمن الجميل قد ولى وأقبل زمن العار.
كل رواية في عالم حيدر حيدر مملكة قائمة بذاتها، غزيرة بالأحداث والحكايا والموت أيضا، الموت الذي لا يتردد في ان يحشوه في وسائد الأبطال أو يفخخ به ستائر البيوت أو يستدرج إليه الشخوص في البحر أو النهر أو تحت الأشجار أو على أرصفة الشوارع وعلى الأسرة في غرف النوم.
هكذا بكل سهولة، إذ لا يمكن أن يكون الموت صعبا، فحتى الآن لم يفشل فيه أحد، كما يدعي ذلك نورمان كينغسلي ميلر صاحب “العراة والموتى”، وصاحب أغنية الجلاد، وإذا كان ثمن الحرية هو الموت لدى مالكوم اكس، فإن لدى حيدر أن لا يلتفت إلى أي ثمن في سبيل أن يكتب بحرية فضائحية عن الموت وتجلياته وتحكمه في أزمنة صعبة وموحشة وضميرها ميت.
الحرية لديه فكرة مغالبة، فـ “أن تكون حرا ليس كافيا للسير فوق خط مستقيم، فإن خطوط الآخرين تبدو منكسرة أو منحنية، والمنفى هو السير على خط آخر للحفاظ على التوازن، لماذا هذه الغربة اللعينة في خضاب الدم.
في مرايا النار يحضر حيدر حيدر الموت لأبطاله في أجواء فيها متسع كبير للحلم والتفاؤل، لكنه سرعان ما يحبطها، كخلاص أو توق، وهذه إحدى بطلاته اليافعات المشبعات باللهفة والشهوة “كانت خلاياها تنبض باللهفة والخوف والشهوة، وبدا الإشعاع من خلال ثوب نومها الحار والشفاف يفضح جسدا أبيض يرتعش توقعا إلى الموت”.
إنه لا يفصل أبدا بين ثنائية الحرية والموت، وإن عالمه مسكون بأجنحة الموت الجامحة، يختار في هذا العالم القتلى موتهم بحرية، فلقد كانوا أحرارا في أن يكونوا بشرا عاديين يقضون وقودا لنار الحروب والهزائم، وفي أحسن الأحوال ربما تكون حريتهم قد رُتبت لهم لتكون على مقاسهم كقتلى أحرار. تماما كما أراد غسان كنفاني لكل القتلى مناديا وصارخا فيهم ” لا تموتوا قبل أن تكونوا أحرارا”.
أما السفر والغربة، فهو سفر طويل لولا الوصول، على رأي يوهان غوته، كان حيدر مسافرا وجوالا ومصاحبا للمدن على هذه الأرض الصلبة ومدن الحزن المشيدة في الصروح العملاقة لإبداعه، فثمة مدينة – يقول حيدر – غامضة لا نعرفها، تأخذنا الأشواق والتوقعات إليها، يشبه الأمر ولوج طائر مهاجر إلى غابة للمرة الأولى.
الحياة صعبة وقاسية، والغربة التي تشهق فيها أرواح الغرباء، والسفر الذي يقطع به أوصال وقائع أزمنة يحاول نسيانها ودفنها في الأغوار العميقة للبحر، كثيف وعميق جدا، إلا أن الذاكرة المتأججة المنقوعة في الدم تجعل من رغبة النسيان عصيانا.
وهكذا ملأ حيدر حيدر حياته بالغربة والسفر المسنن الذي يجرح الوعي ويخدش جدران الأزمنة.
Views: 16