صفاء حطاب : المشهدية في روايات الدكتور إبراهيم غبيش
يقول الروائي التركي (أورهان باموك) في مبحث سمّاه (كيف تعمل عقولنا عندما نقرأ رواية؟) “أنّ عقل القارئ يقوم بوضع تصوّرٍ ذهنيٍّ وبصريٍّ للكلمات والعبارات داخل المتن الروائي أثناء عملية القراءة، تصوّر يعيش من خلاله تفاصيل النصّ، ويتماهى مع شخصياته وأحداثه، ما تقوله الرواية من أشياء وعوالمَ، يصبح بمثابة مشاهدَ مرئيةٍ أمام القارئ؛ مثل شخص يطلُّ من نافذة ليرميَ ببصره نحو مشهدٍ ما، أو ينظرُ إلى لوحةٍ مرسومة، مشهد تقوله اللغة وترسمه داخل النصّ”.
يعتمد الكاتب إبراهيم غبيش اللغة المقتضبة والمكثفة، والجمل الرشيقة، والصورة المشهدية في كتاباته، والانتقال من الحاضر بطريقة الوصف إلى الماضي بطريقة التذكر، وينتهج طريقة التناوب بين الغائب والمخاطب دون أن تكون هناك ملامح خاصة لهذا البناء في الفقرة الواحدة أو الفصل الواحد، لأن الماضي يحتاج إلى ذاكرة فإن إدارة البناء اعتمدت على فعل الذاكرة والتذكر أكثر من مرة، وتحويلها أي الذاكرة إلى متن سردي لاستثمار الوعي بقوة من أجل التنبيه إلى قضايا المعاناة والشتات ، والحرمان من أبسط الحقوق والأحلام وممارسة طقوس الحياة بإنسانية لائقة. واهتم الكاتب بالتفاصيل النفسية والعاطفية لأبطاله، بحيث ظهرت بعمق وقدرة على تجاوز الحدود الزمانية والمكانية، كما في رواية (شمال غرب)، وهي رواية فلسفية عميقة، صورت صراعات النفس واحتياجاتها ومعاناتها بسبب الحرمان من أبسط الحقوق الإنسانية، والبحث المستمر عن الأحلام الضائعة وهو ما يميز الفلسطيني المنكوب ومن يشبهه.
الصورة المشهدية تقوم في تشكلها النهائي على المشهد، وأنَّ المشهد كما يرى ليون برميليان “عبارة عن فعل محدد ـ حدث مفرد ـ يحدث في زمان ومكان محددين، ويستغرق من الوقت الذي لا يكون فيه أي تغيير في المكان أو قطع في استمرارية الـــزمن، وعلى هذا الأساس، تكــون الصورة المشهدية هي “كل ما يعرض؛ ليسترعي النظر، ولاسيما إذا كان مثيرًا غير عادي”،
الصورة المشهدية تقوم في تشكلها النهائي على المشهد، وأنَّ المشهد كما يرى ليون برميليان “عبارة عن فعل محدد ـ حدث مفرد ـ
فالرواية بناء سردي محكم يتأسّس على عناصرَ متعدّدة من شخصيات وأحداث وأزمنة وأفضية وحوار وحبكة. وهي أيضا لعبة للرسم بالكلمات، فعل كتابتها بمثابة رسمة تخييلية لغوية من تشكيل الكاتب، أمّا قراءتها فهي مباشَرةُ عمليةِ تخيُّل بصريّة لتلك الرسمة. إنّها مجموعة مشاهدَ مرئيةٍ تجسّدها اللغة.
تدهشنا روايات الدكتور إبراهيم غبيش بصورها الناطقة من مشاهدَ جزئيةٍ تتصاعد وَفْق برنامجٍ سرديّ مُشكِّلة ومُتمِّمة مشهدًا عامّا ينتهي إليه النصّ
وتدهشنا روايات الدكتور إبراهيم غبيش بصورها الناطقة من مشاهدَ جزئيةٍ تتصاعد وَفْق برنامجٍ سرديّ مُشكِّلة ومُتمِّمة مشهدًا عامّا ينتهي إليه النصّ. وتقوم القراءة المشهدية بتحليل هذه الوقفات التصويرية في الرواية بالاعتماد على مجموعة عناصر سيميائية فيها من وصف وتأثيث مكانيّ وحوار وحدث وسبر ملامح الشخصيات وعواطفها وانفعالاتها داخل المشهد، وإذا تمعنا في مشهد من رواية (أسكدنيا)، فسنلاحظ إبداع الكاتب في مزج هذه العناصر لخلق صورا مشهدية مدهشة :
“وهأنذا … أنا وهي على قارعة الأسفلت الضيق- بعيدا عن القرية.
هي منهكة تلهث، وأنا صغير طويل، ونحيل كدونكيشوت.
أحمي عنها الريح والغبار. وهي تئن وتبتسم. تلهث وتبتسم
ولا عربة تقف لتنقلنا إلى المخيم القريب حيث الطبيب.
انهارت، وافترشت الأرض العشبية على جانب الأسفلت. في البداية كانت ترجوني أن نعود إلى غرفتنا في القرية، ولكنها استكانت، شدتني من يدي، ركعت إلى جانبها نحيلا مشدود الوجه.
ضمتني، وجهها الأبيض لم يتغضن، وظل الحزن المختلط بالفرح في العيون البنية.
أخرجت من صدرها منديلا صغيرا، أعطتني إياه، ثلاث قطع ذهبية قديمة.
ضمت يدي، واستراح رأسها على الأرض. استشعرت الخطر، ووقفت طويلا نحيلا متحديا وسط الأسفلت الضيق.
عيناي تتقلبان بين أمي الممددة على جانب الأسفلت والعربات القادمة. أمام الشاحنة الصغيرةالمغلقة…وقفت.”
وهذه المشهدية تتيح للنصّ الروائي المزدحم بالصور الناطقة إمكانية التحوّل إلى سيناريو لعمل سينمائي مصوّر، ومن الأمثلة على ذلك رواية إبراهيم غبيش المعنونة ب(شارع الظل) فقد تم اقتباس فيلم سينمائي منها كجزء من مشروع الاقتباس السينمائي من الأدب تحت إشراف الهيئة الملكية لصناعة الأفلام، صحيح أنّه لا يمكننا إصدار حكم على الإطلاق بأنّ لكلّ رواية القابلية والقدرة على التحوّل إلى فيلم ناجح، أو لديها المقدرة على الإمتاع البصريّ السمعي، لكن توفّرها على هذه المشهدية يعدّ ميزة إضافية لها، ميزة كفيلة بأن تحقّق لها جانبا من شروط الإخراج والتصوير.
Views: 40