نص

سليمان قبيلات : طواف الغربان

من صياح الديكِ حتى مغيب الشمس، يمضي الرُّعاةُ بالقطعانِ من الخربةِ في الجهاتِ الاربعِ.

قُبيل الظهيرةِ، حوّمت حدآتٌ وغربانٌ في سماء الوادي الكبير جنوب الخربة، فتعجّب الرعاة.

البعض قال إن هذا طواف بلا كلل.

كأن الطيور تنتظر صيداً.

البعض الآخر قال ، ان طواف الحدآت والغربان، طالع سوء. لنمضي صوب شمال الوادي، فإن حدَّ نكون في مأمن .

كانوا يتداولون الامر صراخا، فكل منهم في ناحية أو شُعُبٍ. اكبر الرعاة سنّا زجر المتطيرين : “ما يصير غير اللي الله كاتبو”. كانوا يسمعون له ولا يخالفون له رأياً. وما إن أنهى الرجل توبيخه ، حتى ردت السماء ردّاً يستعيذ منه الخلق. كانت شتوة ليس قبلها أو بعدها. أخطأ الرعاة فهم السماء التي اكفهرّت بلمح البصر، وأخذت تلقي على الارض سيولا متصلة.

اندمجت السماء بالأرض في بللٍ واحدٍ.

كبار السن لم تسعفهم الذاكرة بمثلها. لام الرعاة كبيرهم . بل إن بعضهم شتمه في خافية نفسه. قبل أن يدلهمَ الفضاءُ،

امتطى عودة، فرسه وتوجه إلى الجنوب، وراء أخيه الراعي علي. في الطريق “ضبضبت” الدنيا. لعب الفار بعبِّ عودة .قال في نفسه : الولد ضعيف البُنية ولا يستطيع تحمل البرد أو معاركة مياه السيل إن حد.

هبّ كثيرون بعد أن انحسر مدد السماء، فتداعوا للبحث في الأودية والمشاتي القديمة. سلِم الرعاة وقطعانهم ، بعد كدٍّ. لكنّ أحدا من الرجال لم يأت بخبر عن علي . نامت الخربة على صورة الغائب الفتي. صار غيابُ علي، أُحجيةً.

وحده عودة لم يستسلم لكسل المشاعر الذي استأصله من نفسه، دونَ ترددٍ . تداعى القومُ الى “لمّة عاجلة” . قرّروا أن يطوفوا حول “رجم شميلان” سبعَ مراتٍ، ويذبحوا كبشاً تقرباً للولي، لتنفرج غُمّة غيابِ عليٍّ. طافوا حولَ المزارِ سبعَ مراتٍ بالتمام والكمال، لا قبلها ولا بعدها. لكن عليّاً وقطيعَه الصغير لم يعودا. انكسر قلب عودة الذي دخل في نوبات متتالية من الحزن والانقباض .

وعلى نحو ما،

بدأ تمسك عودة بالحياة يخفُّ . صارت التفاصيلُ عنده ، أشياءً غامضةً ، وصارت الخربةُ نائيةً . شفى عودة غليلَه من الحياة التي حرمته أخاه، فمات بغتةً، بالضبط مثل غيبة علي! حدّ السيل: جرت مياهه هادرة.

Views: 51

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى