نص

يحيى القيسي: عصر الخسارات الكبرى

يحيى القيسي

لم يعد كلّ شيء كما كان عليه من قبل، فدوام الحال من المُحال كما يقال، وهذا التبدل ينعكس على مسائل كثيرة في حياتنا اليومية، وينطبق بكلّ تأكيد على منظومة الأدب العربي ومقدار تأثرها بمحيطها العالمي، وبشكل أقرب بالمدار القومي .

لا يمكن لمتتبع الكتابة الإبداعية العربية في حقلي الشعر والرواية على سبيل المثال خلال السنوات العشر الماضية إلا أن يلاحظ التغيرات الهائلة التي طرأت في بنية خطابها على الأقل قياساً على ما مضى، ولست هنا في مجال مناقشة التبدلات الفنية لتقنيات السرد أو اللغة فهذا مجال آخر لا مكان له في هذه العجالة من القول، ولست بصاحبه، فالنقاد وطلبة الدراسات العليا هم من يتكفل بمثل هذا الأمر في دراسات تطبيقية مقارنة، غير أني سأنشغل هنا بملاحظات عامة عن مقدار تلاشي البعد القومي مثلاً أو تراجعه الكبير في الأعمال الروائية العربية قياساً على سنوات الستينات والسبعينات، وهذا حقل يبدو مغرياً لدارسي سوسيولوجيا الأدب، ومدار بحوث كثيرة أيضاً .

لقد واكبت الرواية العربية خلال العقود المنصرمة التيارات الأيديولوجية السائدة وانشغالات الأمة بمفهومها الواسع، حيث كان للبعد الإنساني نصيب كبير أيضاً مع وجود مظلة يسارية قوية وفاعلة مثل الاتحاد السوفياتي بكلّ ما يضخه من بعد ثقافي وفكري وأمل لشعوب كثيرة، وفي الوقت نفسه كان هناك من يشتغل على ترسيخ البعد القومي “للأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة”، ومع توالي الانهيارات السياسية والعسكرية، وتبدل القيم وضياع الهوية وظهور تيارات متطرفة إقصائية ظلامية أصبحت الكتابةُ تأخذ بُعداً ذاتياً وتراجعت هواجسها وأولويات خطابها . وهذا مجال خصب للمتابعة والمقارنة ورؤية الانكسارات التي صاحبت الأعمال الإبداعية في مستوى الشكل والمضمون، وصار على القارئ أن يتورط في روايات تدور في فلك الذات، أو تشتغل على المغامرات العاطفية .

ولم يعد مستغرباً أن نقرأ مقاطع كثيرة من قصائد هلامية المضامين، بلا أي روح ولا لون ولا طعم أو رائحة .

أما من يتورط اليوم في تقديم خطاب إبداعي بروح قومية مثلاً فسيصبح مجالاً للتندّر، لا بل إن بعض الإعلاميين ممن عُرفوا بهذا التوجه في مقالاتهم ومواقفهم أصبحوا يتوارون هنا وهناك ويلبسون لكلّ حالة لبوسها، وكأنّه تم ضبطهم في فضيحة .

وإذا قبلنا بهذا التراجع المتسارع فسيكون هناك من يطالب قريباً برمي أدب الستينات والسبعينات وحتى الثمانينات في أقرب حاوية للنفايات، وسيصبح أهل هذا الخطاب من أصحاب المتاحف لتاريخ الأدب، ولكن في البال ما تزال هناك صورة عدد من الأدباء في الأردن على سبيل المثال، غالب هلسه ورواياته بأجواء بغداد ومصر، ومؤنس الرزاز وإلياس فركوح وأمجد ناصر في روايات عن بيروت، وجمال ناجي ويحيى يخلف وإبراهيم نصرالله عن السعودية واليمن، وسليمان القوابعة ورواياته عن المغرب، وروايتي باب الحيرة عن تونس، ولنا أمثلة أخرى مثل حيدر حيدر من سوريا الذي كتب عن الجزائر، وهناك أمثلة كثيرة لكتاب وكاتبات من مصر وسوريا والعراق والمغرب والجزائر وتونس وغيرها بدا واضحاً البعد القومي في كتاباتهم، والانفتاح أيضاً على البعد الإنساني، والانحياز إلى قضايا التحرر والنضال القومي وتقرير المصير، وبالطبع فإنّ الأوضاع القائمة اليوم لا تدعو إلى التفاؤل فالخراب قد عمّ، والانهيار قد وقع، ولا يملك المرء إلا بصيص الأمل فما بعد السقوط إلا النهوض . . وما خلف الليل الا الصباح .

Views: 84

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى