محمّد ساري: “إنزياحاتٌ ليليّة”
هذا اللّيل مولعٌ بالمواويل، وكذلك بالموسيقا، لا يملّ منها، ولا يبردُ فيه سماعها، هو ليلٌ تحيطُ به الرّيحُ، وتنسلُّ منه الحكايا، كما ينوسُ الذّئبُ وكرَ العشّاق، دون هوادة، يفضحُ أو يستر، لكنّها القُبلاتُ إمّا مُتقنةً، وإمّا وخزَ هُواةٍ!
هو اللّيلُ سبيلي اليومي للانعتاق، للتّماهي مع كلّ ما هو مُشتهى، للحياةِ حين ينامُ الكُلُّ، وتصفو المسافةُ بين الألف والياء، لا اهتزازَ ولا ضجيج، سكونٌ وسكينةٌ، خشوعٌ وتجلّيات، طوافٌ وعَوم!
هو ذا اللّيلُ الّذي أحبّ، أبيضَ، لا تكسر إرادتهُ العتمةُ، فهو ابنها البارّ، وَجدَّتُه في الأعالي، تراقبُ عن كثبٍ الفجرَ، ويستهويه النَّجمُ والبللُ المناطُ بوافر المدى.
اللّيلُ شقيقُ رحمةِ الظُلمة، وهي عكازهُ الأوفى، ودليله لنفسهِ، وصاحبةُ صِفتهِ الأكثر انغماسًا به.
هو اللّيلُ يا صاحِ
فلا ينتمي لكَ الصُّبحُ
والأضدادُ كم تنسى مراياها
وكم تأسى
فكم نخبو وكم نقسو؟!
اللّيلُ، سبيلُ العارفين للنّهر، وللمَجرى، وشربِ آياتِ الحنين، هو المشهدُ الذي تجلسُ انزياحاتهُ على كتفِ الغواية، فتتعرّى الجهاتُ من فرطِ نشوةِ الماء!
هو اللّيلُ، الّذي يؤرّقني رغم كلّ هذا الهيام، لا أنامُ به، ولا ينام بي، نفيضُ بنا نحو اللاوصول، حيثُ ننتمي إلى اللامُنتهى!
أحبسُ أنفاسي مرّةً في كلّ ليلةٍ، ثم أنسى دمي في عيونِ الكلام، تسقط منّي حروف النّعاس، ويصيبُ قلبي الانتظار!
هو اللّيل الّذي لا ينتهي، ولا يخسرُ رهانه، هو يبدّلُ ثيابهُ فقط، حتّى لا تربكنا مواصلته، ويستفزّنا وجههُ الشّتوي، حيثُ لا دين للملل، ولا حقّ للوقت، إذ تصيرُ الدقائقُ سكاكينَ، واللّحظات خناجرَ، إذا ما ضَربَ البردُ قميصَ ليلةٍ لا دفءَ فيها ولا شوكولا!
أيّها اللّيل، خسرتُ صحّتي بسببك للأبد، لكنّني أسامحك، شريطةَ أن نعقد صفقة ما، أخبرك بها بيني وبينك، حتى لا يدخل الغرباء بيننا، ويشعلون الضوء، فتنعطب مواقيت اللقاء بيني وبينك، ويخسر الظلُّ عواء الذّئب الذي ينتظرُ آخر كلمة، ليأكلني دون ملح، سأهربُ منه، وسأصطادهُ، فقد تدربت على يديكَ كثيرًا أيّها اللّيل، وصرتُ صيّادًا ماهرًا، ولارا، واحدةٌ كثيرةٌ من كلّ هذا الفوز!
هو اللّيلُ حينَ يمشي معي إلى آخره، ويجلسُ في ليلي الموصدِ هذا، يُراقبُ هواجسي عن كثبٍ، وما أكتبهُ عنه، ككائن ليلي بامتياز، ويضحكُ ملءَ فمه!
يضحكُ، لا يبكي
لا يبكي، يضحكُ!
Views: 62