كتاب

الفرات بن علي: لمحات عن ديوان “الريح لا تصطنع الصفير” للشاعر د.ضياء الجنابي….”نحو تأسيس شعرية متميزة”

لقد وصلتني مجموعتان شعريتان من نتاج الشاعر القدير د. ضياء الجنابي؛ هما “الريح لا تصطنع الصفير” و “شهقات بحاجة إلى الأوكسجين”

أود أن أشير إلى أنني كنت قد كتبت عن المجموعة الثانية، أما المجموعة الأولى فاتسمت، بنظري، بثلاث نوافذ يمكن للمتلقي أن يطل من خلالها على مجمل الفاعلية الشعرية النابضة طوال مسافة المجموعة الممتدة من الحضور إلى إيقاع ما بعد الوزن وبالعكس، إلا أنني سأرجئ مسالة عروض القصائد وما بعد أوزانها، حسب تعبيري، إلى مناسبة أخرى.

النافذة الأولى: هي “النص الشعري” الذي لن أتوهم بتجريده من “حضوراته” الخارجية كما يصنع التفكيكيون تحت لا فتة الخديعة التي استوردها عدد غير قليل من المهتمين، نقاداً ومتلقين، المتعلقة بمقولة أن “لا شئ خارج النص” وأن “المؤلف مفقود” جراء القراءات المتنوعة المختلفة التي تتعاطى نصه، كما أن “تفسير النص” هو الآخر لا يضيف شيئاً، بل على العكس، ربما يزرع ثآليل ودمامل على ملامح “تجربة شعرية” أجدها من الإضاءة بما يكفي جداً للتلامس والتأثير والاستجابة بصورة معمقة وحيوية دون أية حاجة إلى حصار “رؤيا إبداعية” في نطاق معانٍ ومفاهيم قد تصلح في مجال آخر من المعرفة الأدبية أو غيرها، بيد أنها في مجال الشعر ستأخذ طبيعة النظرة المجحفة على اقل تقدير، إن لم تكن مشوِّهة تطمس المعالم الرائية بركام من الأفكار النمطية والمشاهدة الراكدة التي، قطعاً، تئد زهرة الفن، وتقذف بالخيال، خيال المبدع والمتلقي معاً، إلى أرض جرداء لا خليقة عليها ولا سماء فوقها.

النافذة الثانية: هي “القراءة” الانطباعية التي أرى أن المقدمة التي كتبها الشاعر “صفاء المهاجر” والخاتمة التي كتبها الشاعر “وهاب شريف” فيها محاولتين مثابرتين في “تهجّس” النص وتعقّب آثار حواسه إجمالا في دورته الدموية المعلومة، كما أتصور، دون أن تشتبكا مع جريان دمائه السرية، ليس افتقاراً، وإنما تجنباً للإطالة والإسهاب من ناحية، وعدم الرغبة في سحب المتلقي إلى مجاهيل هي “جوهر الشعر” حقاً، غير أنها، ربما، قد تأخذ شاكلة أغلال وكوابح تقمع حريته في تعاطي الآفاق المناخية الشعرية للنص من ناحية ثانية..

النافذة الثالثة: هي ” التأويل” ، حسب رأيي، والتي يمكن  أن اختزلها بجملة مفادها إن المجموعة تمثل “محاولة من طبقات تتضمن الخيال والإدراك والعاطفة في سبيل تأسيس تجربة شعرية متميزة”، خاصةً إذا اعتبرنا أنَّ مجموعة ” شهقات بحاجة إلى الأوكسجين” هي “بنيان رؤيوي” ارتفع قياماً على هذه التأسيسات مع ملاحظة ضرورية تؤشر انه من الجائز كثيراً أن تكون هنالك شرائح “فنية” زاولها أو ابتدعها الشاعر، لم أطلع عليها، في نتاجات أخرى، تعمق وتوثق وتنوع الوشائج بين التأسيس والبنائية القائمة عليه الأمر الذي اتركه الآن إلى مناسبته الواقعية بعيدا عن أية نظرة أو مداخلة استنتاجيه متسرعة، فضلا عن وجوب الإشارة إلى أن تسلسل الطبقات في “الرؤيا الإبداعية” الذي سيندرج لاحقا، ليس جامداً ولا ثابتاً، بل هو يقترب ويبتعد ويتفرق ويجتمع ويحتوي ويُحتوى حسب “الحالة” الشعرية، والطبقة التأسيسية الأولى هي “العلاقة المصيرية بين الجزء والكل”، فلا حضور ولا قيامة للأول إذا لم يكن متعشّقاً في أجواء كلية تشرعن”خصوصيته” ثم تبعثها حرة طليقة، ولا أهمية للكل إذا لم يعثر بين تفاصيله على جزء واحد على الأقل، يتمثل المزايا الكلية ويبعثها في الأجزاء الأخرى على نحو “سلسلة حيوية” من الإرهاصات المؤثرة المستجيبة في آنٍ معاً، وفي هذا السبيل قول الشاعر: –

“في عيوني يشهق الحزنُ المدجَّن

ويبثّ الدفء في وجهِ نبيٍّ”

إلى قوله : –

“بذهولٍ يمسكُ الصمتَ المدوّي

فاعتراني حينها ذات الذهول ..” ص11

ومثلها في صفحات 13، 19، 20، 24، 43 وغيرها.

والطبقة الثانية هي العلاقة الجدلية بين “القديم والجديد” غير المحسومة من حيث الدلالات والحراك المتحول، باعتبار أن الفن وجود “قديم جديد” إلا أنه ليس مغلقا بل مفتوح جهةَ البدايات والنهايات، إذا افترضنا أن هنالك بدايات ونهايات للشعر المشرع المصير الذي يتقدم مبتعداً ويبتعد متقدماً خلال حقائق وركائز تاريخية خاصة به تناظر بعضها متوازية على امتداد التجربة الإنسانية، ولكنها تلتقي على امتداد التجربة أيضاً.

كقوله: –

“عابراً كل المسافات

زاجراً عتم المتاهات

واعداً بالصبحِ

رغم الليل

في حضن اللهيب ..” ص19

ومثلها صفحات 39، 53

وقوله: –

“خيم الصمتُ على جمر السنين

فاستعار الوقت مني لوعةً

كي يباهي حينها نزف الكلام ..” ص57 وغيرها.

والطبقة التأسيسية الثالثة هي “البسيط والمعقد” وما يترتب عليهما من “بقاء وفناء” من جهة “شوق” كل منهما أن يكون الآخر باعتباره معناه “الغامض في البدء” من جهة الذات ومعناه “الصريح المخلوق” من جهة “الآخر” كما أن كلا منهما يمثل “موقفاً دالاً” دامغاً على وجود “نصفه الآخر” إذا جاز القول، في عقدة الصورة الشعرية أثناء حركة “أفعال” تجسد نشاط الزمن.

كقول الشاعر في معنى البقاء: –

“إن حزناً يعتريه

بلون الماء”

و”الحلم المغروس الأوصال بلحمي

يتطلع للحلم .. ” ص 30 ص31

وقوله في معنى الفناء: –

“أتجمهر

حول ظنوني المسدلة الجفنِ

أتقرى حسرات السجنِ

فتدوس على عنقي

عربات السدى ..” ص35

ومثلها ص40 وغيرها ..

وكأني بالشاعر يتبنى مقولة اليوت:-

“إن الصورة الشعرية عرض لعقدة ذهنية في لحظة زمنية”، مع فارق مهم أن “العقدة” لدى شاعرنا تشتبك في مصاف “ذهني عرفاني” انطلاقا من طبيعة “الهوية”.

والطبقة الرابعة هي “الأصل والفرع” بين العالم “الموضوعي” الشاسع بكل ما فيه و”القلب” البشري، والمغزى هو أن نتساءل أيهما الأصل لكي ندرك الفرع أو العكس انبثاقا من الفرع ليس لأنه ممكن بل لكونه دهشة مفاجئة تمتد أجلا ” تأصيلياً” طويلاً لمناسبة جرس مقبلٍ على وقع عنفوان الشاعر: –

“ألفيت أن الريح لا تصطنع الصفير

والشمس لاذت حينما أقلقها السحاب

في قلبيَ الصغير ..” ص83

ودورة استحالة الأصل والفرع يكرسها الشاعر بتوالٍ وتداعٍ حميمين في اوركسترا الكائنات: –

“البحر يدمدم موسيقى

النهر يتمتم موسيقى

موسيقى

بضمير الصبحِ

موسيقى

بشفاه الجرحِ

موسيقى

مو سيقى ..” ص45

والطبقة الخامسة هي “الخلاص والحرية” باعتبارهما مترادفين مختلفين في آنٍ معاً.

فالخلاص “ذكرى” متحولة:-

“سبقتني الدمعةُ للشمس

وتذكرت الخدين المخضلين بلون التفاح

وعطر الدمع ..” ص29

والحرية ” مسيرة ” متجذرة :-

“فمشيت

وتلاشت تحت خطاي الأشواك

الأسلاك،

الألغام،

الأوهام،

الجدران،

القضبان ..” ص 32

وهما سوياً، الخلاص والحرية، جوانية الإنسان، دافعا جينيا، بجواز التعبير، في الجانب السري، وصياغة متجددة دائما للصيرورة البشرية بصورة “مهجة تحرر” علنية يتداخلان بمحبة ضوئية تتسكع كما تشاء:-

“صامتٌ

كان المصباح

على تلك الشجرة

يستفز المرآة بقلبي

فيفز الرفض المتأرشف

ويصيرني ريحاً

تتسكع تحت جناحي عصفور ..” ص30

Views: 18

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى