قصص قصيرة…شَارِبُ الجِنِرالِ( كومبارس الصمت)
سليم النجار
على متن هذه القراءة النقدية، سنقوم برحلة إستكشافية في المجموعة القصصية ” شَارِبُ الجِنِرالِ” – الصادرة عن شركة دار البيروني للنشر والتوزيع- عمان- ٢٠٢١ ٠ وهي القصص التي يمكن القول باختصار أنها تحتفل – على طريقة السارد الخاصة- ب”عيد” التمزق الأخلاقي والتمزيق الاجتماعي الشامل، حيت يتم تطليق مجموعة من الفضائل، والزواج بمجموعة من الرذائل٠ التي تسللت خلسة تارة وتارة علناً مرة اخرى، لتؤسس لثقافة المكاشفة على انقاض الواقع٠
إن القراءة تكشف، والذاكرة تحفظ، والخيال يمد( ينقل)، هذه المعطيات إلى قممها الرمزية والدلالية من خلال الصياغة الفنية والاسلوب الخاصين للقاص٠
إن الخيال هو المحرك الإبداعي للأحداث سواء من العدم إلى الوجود ، أو من الذاكرة للنص٠ ولعل اهم الأليات التي تستعين بها الذاكرة هي ” الأذن والعين” إذا كان الأمر كذلك، فإننا نستطيع بسهولة أن نميز بين السارد الذي يعتمد على الرؤية٠ وعلى سبيل المثال: حين نعلم بأن سارد هذه القصص التي بين أيدينا، يعتمد على الزمن ويربط ذلك بالقص، فسيتبين لنا بأنه يعتمد على الرؤية أكثر من السمع وهذا يسمح لنا باستنتاج إن آلية حفظ الأحداث في ذاكرة ساردنا هي العين:( اللّيل والعتمة وهدير الطائرات في السماء، وأصوات انفجارات مرعبة تنطلق بين حين وآخر ص٤٠)٠
إننا، في هذه القصة أمام قاص يخاطبنا من داخل السمع، يقرأ علينا قصة بعنوان” امرأة من زمن آخر”٠ وقد تفاجئ القارئ٠ أننا أمام ثلاث قصص متداخلة بشكل رمزي، ويتم هذا ألتليث وذاك التداخل في حالة من الوعي تشبه الحلم، لأنها لا تحرك الأحداث( الخطاب) في مسار أفقي للنص( أي من وعي السارد إلى وعي القارئ مباشرة في حالة عادية)، وإن تحركها في مسار عمودي، من باطن النص إلى سطحه)٠
إن القصة الأولى تتحدث عن شخص يشتاق لأخته، وعن تجاربه الإنسانية العادية، القصة الثانية تتحدث عن سيرة شخص وإضطراره، بعد أن ضاق ذرعا بالبؤس الذي يعيشه في كنف الموت، والقصة الثالثة تتحدث ( بشكل جزئي وشبه استباقي) عن تجارب الأم في التعاطي مع قضية الأم٠
بعد إدراكنا لهذا التوجه الثلاثي على المستوى المذكور، كان من السهل أن نلقي نظرة مرة أخرى، على قصة ” ليس الآن ٠٠٠”، ونلاحظ بأن عنوانها يتكون من مقطعين، أي روائح الزمن المعاش، وأن لذلك ارتباطا سحرياً بالشبكة الدلالية التي تحكم النص، وعن الصورتين اللتان تعبران كدلالة للعنوان للقصة الأولى( عاد في طريق غير الذّى جاء منه، يُمكنه من السّير مئات الأمتار لحين تقوم زوجته بتحضير وجبة العشاء ص٥٠)، والصورة الثانية 🙁 – وهل سابقى للعام المقبل؟
أخذت ابنته تجهش بالبكاء، قائلة : – ارجوك يا ابي، لا تقل ذلك ص٥٠)٠
إننا لا نتعامل هنا مع مفردات النص باعتبارها مجموعة من الصدف شاءت الاقدار إن تجتمع في بياض هذه الأوراق، بل نعتقد أنها بناء دلالي متكامل له قاع وسطح٠
وبمقدورنا إن نبرهن على ذلك كن خلال العديد من الأمثلة٠ وأن النص الذي بين أيدينا يقوم على الترسبات اللاشعورية٠ إنه إيقاع دلالي تنتظم في مساره مختلف التجليات التي يأخذها ما تختزله في مفهوم ” الدرس” قد يلوح في أفق النص على هيئة رتبة أو طبقة أو عدد أو كلمة أو جملة الخ، كما هو واضح في قصة ” إذعان” : ( بعد انقضاء شهرين، في صبيحة يوم ربيعي مشمس، عاد الطّفل إلى المدرسة، فابتهج الأطفال لحضوره في الفصل، رغم أنّه لم يجرؤ أحد التعبير عن ذلك ص١٢)٠
وهذا مثال على العلاقة بين الدلالة التي تشي بقاع القصة وسطحها٠
لأن علاقة الكاتب بالنص الذي يكتبه ليست مجرد علاقة آحادية، ولا يمكن حصرها في نطاق الوعي فقط، وإنما علاقة متعددة الوجوه، تنتشر عدة اتجاهات ومن هنا يصبح النص ظل دلالي يختلف في ابعاده عن الأبعاد التي يظهر بها في حلته الخطابية أمام المتلقي٠ وبذلك نكون أمام لغة باطنية متكاملة تحاول أن تبلغ النص اللاشعوري بهذا الاتجاه الموازي٠
لقد قام القاص سمير البروقاوي باختيار شخصية عامة تتحدث عن( لافتات)، لقراءة الواقع الإجتماعي السياسي، لأنه كاتب على المستوى الواقعي للنص، لكنه ممثل رمزي لكاتب القصة أيضا!٠ فكما يقوم القاص بقراءة قصة” لافتات” داخل السوق، نراه يقص علينا من صيغتي استفهام وإن لسان حال السائل السارد يقول:( – عذراً للازعاج يا سيّدتي، ولكن هذا بيت الخطّاط؟
آجابت بصوت يشويه الاستغراب والقلق، وكأنّها بانتظار سماع خبرٍ ما:
- نعم٠
جوابها كان معلًقاً، هي بانتظار توضيح اكثر، وهو أحس بأنّ جوابها الزمه استفساراً غير مُبرَّر: -لا ص٣٦)٠ وكما نستشف من خلال قراءتنا المتأتنية للقصة، إنه قرر أن يقص علينا قصة الجواب على السؤال، وهو قصة مع زوج الخطااط، وإن كان للخطاط حضور هامشي فيها٠
من هنا ندخل مع السارد في قراءة قصة أخرى، حول شخصية مدججة بالتذمر والبؤس، يصارع قساوة الحياة والتهميش صراعاً عميقا٠ وعقيما، كله ألم بلا أمل٠ تظهر شخصية المتذمر( السارد)، أنه يهدر شبابه وزمانه واعصابه بلا طائل٠
بيد أن هذه الشخصية التي صاغها القاص في قصة ” المتحولون”، لا تتضمن ما يفيد الإشارة إلى رحلة واحدة للسارد ” القارئ”، بل تشير إلى الحياة اليومية للمتذمر، وفي ذلك تمثيل رمزي لكون القصة فصلاً من فصول المجموعة القصصية ” شَارِبُ الجِنِرالِ” الكبرى التي تشكل المنجز السردي المحقق والممكن للكاتب٠ وحتى نوضح هذه النقطة بدقة، لنميز أولا بين” القراءتين”، الأولى هي قراءة الكاتب( السارد) للقصة:( حين سألت زوجتي: - منذ متى بدأت تلاحظين التّغيّر آخذ يطرأ عليهم؟
آجابت: - لا اتذكّر تماماً، لم تكن الأمور واضحة كما هي الآن٠ وأخذت تبكي ص٧٣)٠
والثانية هي قراءة السارد لقصة أنا ٠٠٠ داخل هذه القصة ” المتحولون” 🙁 لم يكن هناك جدوى من متابعة الحديث معهم، وانا أرى ثيابهم تتقطّع وهي تضيق على اجسادهم الّتي تنمو وتتضخّم مانحة إياهم الهيئة البهيميّة المتوّحشة ص٧٦)٠
إذاً القراءة الأولى قراءة للنص، والقراءة الثانية قراءة النص٠
إن القاص هو قارئ حسب هذا المفهوم، وأن السارد هو القارئ في النص وبناءً على ذلك، فإن القارئ في النص ذهب( قرأ) عملا سردياً٠
لم يبق من شَارِبٌ الجِنِرالِ للقاص سمير البرقاوي إلا الاسم عائماً في فضاء النص، بحيث يمكن أن يدل على أكثر من مسماه الأصلي،وأصبحت المرأة عابرة للازمان، بحيث تجدها أمام واقع مرير، هي الأخرى، وكأنها بالفعل على علاقة سحرية بمصباح علاء الدين٠
كما قدم سمير البروقاوي في قصصه” شَارِبُ الجِنِرِالِ” سرداً قصصياً من منظور المشاهد البعيد، الذي يصف ما يرى: ضمير الغائب ” هو” وصيغة الزمن ( الماضي)٠
وهذه الوسيلة تعد أكثر طرائق السرد القصصي شيوعيا في القديم والحدث، وهذا ما يؤكد قدرتها المتجددة على التعبير القص
Views: 5