نص

نقدنا الأدبي…”نقد…أم…عك؟!”

بقلم: يوسف كوفحي

 في الحقيقة، إن الناظر في مدونة تاريخ الأدب العربي والنقد الأدبي وقضايا الأدب سيجد أن الأدب شكل من أشكال التعبير اللغوي بقوالب محددة ومعينة، وأن نقده بدأ بنقد انطباعي بسيط منذ العصر الجاهلي. ثم بدأ يطرأ على (القالب الأدبي)، و(نقده) بعض التغييرات هنا أو هناك. لأسباب حضارية وسياسية وفكرية واقتصادية وغير ذلك.

إلا أن الحقيقة التي تظهر جلية من هذا التطور على الأدب ونقده، لا يعدو كونه شكلا معينا للقالب الأدبي، ونقدا انطباعيا للنقد، ولا أبالغ إن قلت إن هذا هو واقع الأدب ونقده حتى وقتنا الراهن. فما زال نقادنا ينظرون للنصوص الأدبية باعتبارها أشكالا لغوية تزخر بالصور والتراكيب الغريبة والألفاظ الجزلة، وقل مثل ذلك في النقد، إذ ما زالوا يمارسون انطباعاتهم على النصوص الأدبية، دون أي معيار أو قانون أو قاعدة تؤكد أو تنفي ما يذهب إليه، أو تصحح وتخطئ ما وصل إليه ورآه. وفي هذه الحالة أصبح الأدب والنقد الأدبي مجالين مفتوحين لكل كاتب وناقد بلا ضوابط أو شروط أو معيار.

فلا غرو من غياب تلك المرجعية المعرفية للأدب ونقده؛ وذلك لأنهما أسسا على أكذوبة كبيرة ما زالت سائدة في الأوساط العلمية، وهي أن ثمة أدب؛ أي صناعة قالب لغوي للتعبير عن الأفكار والعواطف، محكومة بالتذوق الجمالي وصياغة اللغة والصور الفنية والموسيقى وغير ذلك، وعلى الرغم من تلك المحكومية للنص الأدبي، فإنها نظريات مجردة لا ترقى للدراسة العلمية المنضبطة. وهي كذلك إلى يومنا هذا. وهذا هو السبب الرئيس لضياع بوصلة الأدب ونقده.

فأحكامنا على النصوص الأدبية بأنها جيدة أو رديئة، أو بوصفها أعمالا إبداعية وخالدة وباهرة ومذهلة وعظيمة وغير ذلك من الصفات والتقييمات للنصوص، ما هي إلا انطباعات وتجارب شخصية لا غير؛ لأن أداة التقييم غير موجودة أصلا.

إلا أن الحقيقة الغائبة، نسبيا، هي أن الأدب في أصله وتكوينه وصناعته يقوم على الفكر والثقافة، الثقافة بكل أبعادها الشعبية والأعراف والعادات والتقاليد والخرافات والأساطير، والفكر بكل أبعاده أيضا دينيا وسياسيا واجتماعيا واقتصاديا وعلميا ونفسيا وغير ذلك، مما يدخل في مضمار الفكر والمعرفة. وهكذا، فإن الأدب من هذه الزاوية هو أدب صيغ بشكل أو قالب لغوي متعارف عليه أنه (نص أدبي)، وأدبيته مستمدة لا من شكله وقالبه، إنما من مضمونه وأفكاره ومقاصده، ولا قيمة لأي أثر له إلا بما يحمله من مضامين يمكن أن تترك أثرا عند المتلقي.

فالأدب عبر تاريخه كما هو معروف للجميع، وعاء للفكر، أي أنه يعبر عن أفكار أمته ومجتمعه، ويعبر عن ثقافتهم وعاداتهم وتقاليدهم، بمعنى آخر، هو مظهر من مظاهر الإنسانية بكل أبعادها، الأخلاقية والفكرية والدينية والسلوكية والنفسية والاجتماعية. ومن ثمّ، فإن محور العمل الأدبي هو مضمونه لا شكله الذي يعبر عن هذا المضمون، ما دامت نصيته محققة للمتلقي، أي أنه نص مفهوم إلى حد بعيد فهما مباشرا، أو فهما تأويليا ضمن قواعد التأويل والتفسير. وهذه النصية للنص الأدبي لا تعدو كونها أداة ليس إلا؛ لتفريغ ما عند المبدع من أفكار وعواطف، ليقدمها رسالة للآخر للتأثير فيه والتحكم به.

وهكذا، فإن الفكرة هي مناط البحث والتفسير والنقد لهذا العمل، لأنها محكومة بمعايير وأسس، ومدعومة بالحجج والبراهين على صحتها أو فسادها، خيرها أو شرها، وانطلاقا من هذه المعايير، يمكن الولوج للجانب الشكلي للنص من خلال أفكاره المُعبّر عنها بهذا الشكل، الذي ربما يكون قد أخل هنا أو هناك في مضمون الفكرة ذات المرجعية المعرفية المنضبطة، فإسقاط الشكل على الفكرة، هو الإجراء السليم لبيان نصية النص وليس العكس. بمعنى أوضح، إن نقد المبدع لقالبه الشكلي غير محكوم بقواعد الشكل، بل بسلامة الفكرة، ما لم يكن، طبعا، النقد الشكلي قائما على قواعد النحو والصرف والإملاء والأسلوب.

فإذا أراد المبدع التعبير عن الفكرة الشيوعية أو العدمية أو الاشتراكية أو عن فكرة دينية أو مذهبية أو فكرة إلحادية، أو التعبير عن الرذيلة أو الحرية أو غير ذلك من أفكار وآيديولوجيات، فإن النقد، ساعتئذ، سيقف على تناول هذه الأفكار في النص الأدبي متكئا على مرجعياتها المعرفية، أولا، من حيث المفهوم والحدود، ثم الوقوف على نقدها بوصفها أفكارا فاسدة أو صالحة انطلاقا من مرجعيات واقعية أو عقلية أو نقلية أو علمية أو أخلاقية أو منطقية أو فلسفية، ثم بالوقوف على تناول النص لتلك الأفكار وحجيتها وأثرها العاطفي؛ ليحكم بعد ذلك، على النص الأدبي بوصفه نصا فكريا ذا مقاصد وغايات فكرية ذات أبعاد سياسية أو دينية أو عرقية أو عنصرية أو اجتماعية أو نفسية أو أخلاقية.

فدراسة الأدب ونقده لا بد أن تندرج في إطار الأثر الذي يخلفه هذا الأدب من معرفه على الإنسان (المتلقي) فردا كان أم جماعة، فكان له الدور بانتشار هذا الفكر أو ذاك، أو اندلاع الثورة هذه أو تلك، أو كان له الدور في إنشاء المثقفين وصناعة عصر جديد من النهضة أو التنوير أو التجديد، فكان سببا لنشر المؤلفات والمجلات والمقالات، وتأسيس أرضية منهجية لمعرفة جديدة تُدرّس في المدارس والجامعات، وينعقد حولها المؤتمرات والندوات. من هنا، تأتي دراسة الأدب وتاريخه ونقده، إثباتا وإنكارا، دفاعا وهجوما، ليكون البوابة التي يلج إليها الباحثون على اختلاف تخصصاتهم واهتماماتهم لاستكناه النسق الذي بني عليه الأدب المشبع بالفكر الإصلاحي أو التخريبي، في جميع المجالات، الاجتماعي والنفسي والسياسي والديني وغير ذلك. 

استنادا على ذلك، فإن النظر إلى الأدب لا بد أن يرتكز على فكرة الأدب بوصفه معرفة لا ناقلا للمعرفة، إذا اعتبرنا الأدب عملا إبداعيا غايته التأثير والتغيير، أو باعتباره أداة لإنتاج المعرفة يبقى أثره ممتدا عبر القرون والعصور، وليس أداة للحفظ والتحنيط، وبين الأدبين، الأدب المُنْتِج والأدب الناقل، فإنّ ثمّة فروقا عظيمة بين سرد الأحداث ومعرفيّة الأحداث، وفرق بين التعبير عن المشاعر، وخلق المشاعر وسبر أغوارها والغوص في أعماقها، وفرق بين التعبير عن الأفكار، وتحليل الأفكار وتفكيكها وبيان حجتها وقوتها وفاعليتها على الإنسان والمجتمع، بوصف الأدب، في الدرجة الأولى، أداة للنهضة والتنوير، ودافعا قويا للتغيير والتجديد.

Views: 75

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى