قراءة في نصوص هايكو للشاعرة ابتسام أبو شقير “شعر قليل وألم كثير”
قراءة: منذر كامل اللالا
“أحلم بلغةٍ، كلماتها، كالقبضات، تهشّم الأحناك”
“إميل سيوران”
مقدِّمة:
تعدّدت مصادر الكتابة لشعراء الهايكو. وكانتالحرب مناسَبَة جاذبة لكتابة الهايكو. ففي أوقات كهذه ليس من متَّسع في الشعر للانتظار والدخولفي تفاصيل ما يحدث كما في السرد، بل هيالومضة والاستجابة بردّة فعل عنيفة على ما يرىالشاعر، فيقطر من ذلك الجحيم قطرات تجسّمللقارئ ما يجري في مشهد الحرب، فالهايكو يعطي قيمة لأشكال الحياة سواء أكانت مرتبطة بالإنسان أو بالطبيعة والكون، لكي تنطلق رحلة الهايجن إلى عوالمه الداخلية عبورا بالعالم الخارجي واستكشاف كنهِهِ وجوهره، ورغم قصر هذا النمط الشعري، إلاّأنّه يحمل في طيّاته روحا تّأملية من أجل الوصول إلى الكمال من خلال تماس ذواتنا مع جوهر الأشياء.
“أكفان بيضاء
على السياج الشائك..
تحط ّطيور الجنّة!
في هذا النصِ المُختزلِ تُقدِّم الشاعرةُ صورةً عبارةً عن مزيجِ من الفِكر والعاطفةِ. ففي غزّة اليوم تدور رحى الحرب، حيث يمعن العدو في القتل ويجتاز كلّ القوانين الإنسانية لتنفيذ مجزرته، “الأكفان البيضاء” هي السّمة الأكثر حضورا في المشهد، إذ يتزايد عدد الشهداء ولا أفق واضح لتوقُّف المجزرة، “على السياج الشائك” تنقلناالشاعرة إلى الصورة الحسية وتثير عاطفة القارىء وتدعوه إلى التبصّر في تاريخ طويل من التهجير والقتل الذي تعرّض له أهل فلسطين، والسلك الشائك وعلى مدار سنوات احتلال فلسطين الممتدّة من عام 1948 مرورا بعام 1967 يمثِّل صورة الاحتلال البشعة ويمثّل مراحل احتلال فلسطين، وهو مرتبط بالحرب ويشير إلى الكفاح المستمر للحياة ضدّالموت، ويعكس حالات، الجوع والمعاناة وتقييدالحريات، فالصورةُ الشعريةُ هنا تثير عاطفةَ القارئِ وتدعوه إلى التفكيرِ والبحثِ عن معنى خاصٍ به،فهي إلى جانب ذلك تعملُ كمُحفزٍ للرؤيةِ والسمعِ واللمسِ وغيرها؛ فالسلك الشائك هو أيضاً حاجز معنوي يقف في وجه الحياة والحرية. “تحطّ طيور الجنّة” المقطع الثالث وهو الرابط بين المقطع الأوّل والثاني ويربط بين عناصر النصّ فما بين البياض النقي ودلالة الأكفان وما بين قسوة الأسلاك الشائكة ودلالتها المفزعة، تأتي الطيور، وهي ليست طيورا عادية بل تختصّ بالأطفال التي تحمل أرواحهم وتسكن الجنة معهم في نعيم مقيم وأمان كامل، صورة للأمل والسلام في حلكة ما يمرّ بفلسطين من مآس وتهجير وقتل ممنهج، ليأتي الوعد ولتأتي البشرى من ربِّ السماوات والأرض، هي الأرضالمباركة، “مِن شذى وندى”، لم تسكت يوماً، وإن فعلت، ذات جراحاتٍ، فإنّها تُفيقُ مسرعةً لتصرخ: “أجملُ التاريخِ كان غدا”. مع العلم أنّ “طيور الجنّة” موجودة وتعيش في عدّة أماكن من العالم.
والمتعمِّقُ في هذا النصّ يلحظُ اقتصاداً لغويا لافتاً، أو بمعنىً آخرَ ليسَ ثمّة كلماتٌ زائدةٌ غير معنيةٍ بتشكيلِ صُورةِ النص، وهذا يُدللُ على أنّالشاعرةَ التزمتْ البَيانَ العامَ الذي صاغَه إزرا باوند؛ فقد ركّزتِ الشاعرةُ على صُورةِ (أكفان بيضاء)، ولم تعمد إلى صرِفِ القارئِ عن فداحة هذه الصورةواختصرتها بكلّ قسوة المعنى. وهو انعكاس لوعي الشاعرة حيث كان استخدامُها للصورِ دائمًاً مُوجزًا ودقيقا وأدى رسالته بنقل المعاناة المتواصلة لشعب فلسطين.
وطن الأزاهير
اسألوا شقائق النعمان
بدماء مَنْ تَخضّبت!؟
في هذا النصّ الذي يُحدِث نوعا من الموسيقى الظاهرية والرومانسية، يحدث أيضا نوعا من حالة الانصهار بين الوطن وترابه وبين شقائق النعمان، يأخذنا دون فواصل إلى خلاصة قد تكون صادمة في مآلاتها النهائية! وهنا تكمن قوّة النصّ وقوّة الشاعرة. فالهايكو الحديث الذي يسعى إلى تجاوز القاموس القديم بمفردات تطيح محيط الدائرة الضيّقة، لتشتبك مع لحظة راهنة. وتعبّر عن جوهر الهايكو لجهة الكثافة والاختزال اللفظي، لتأخذنا إلى لغة متقشّفة تنطوي على افتتانٍ بالأشياء الرقيقة والعابرة، ومخاطبة العناصر والموجودات بضربة مباغتة، وهذا ما فعله النص؛ “وطن الأزاهير”: فالمقطع الأول يحمل دلالات جمالية ورومانسية ترمز إلى الجمال والنقاء والطبيعة. استخدام كلمة “وطن” يشير إلى ارتباط هذه الزهور بالأرض والوطن، ممّا يعزِّز شعور الانتماء والحبّ للوطن وإلى تجذّره في القلب والوعي، “اسألوا شقائق النعمان” هذه العبارة تحثّ المتلقي على دعوة للبحث والتقصّي، وكأنّالشاعرة تدعو القارئ إلى البحث عن الحقيقة المخفية أو المنسية، فشقائق النعمان هي نوع من الزهور التي تكثر في فلسطين وتتميّز بلونها الأحمر، وترمز أيضا إلى التضحية بالدماء التي لوّنتها: “بدماء مَنْ تَخضّبت!؟” هنا يأتي السؤال ليضيف غموضاً ويثير الفضول ويضيف بعداً مأساوياً وجمالياً في الوقت نفسه ويدلّل على عظمة شعب فلسطين وتواصل فعل المقاومة والبذل والاستشهاد من أجل الحرية:
بيتنا المهجور
متسمّرة على حائطه
كوفية!
في هذا النصّ تظهر اللغةُ الحِسّية لتشكيلِ الصُورةِ المطلوبة؛ فكُلما كانت اللغةُ بسيطةً ومباشرةسَهُلَ على المتلقي التعمّقُ في المعنى وتخيّلُ الصورة واكتشافُ تفاصيلِها الكاملة؛ فالهدف من الصُورةِ هو خلقُ تصّورٍ ورؤية حول الشيء، فالصورة إذن ليست مجرّد نقل عادي للأشياء الحسّية على صورتها الواقعية؛ إذ تعكس تجربة إنسانية عميقة وتصوِّرها برؤية فنية وإبداعية مختلفة، وهذه الرؤية الإبداعية المغايرة التي تقدِّمها الشاعرة من خلال الصورة هي أكثر ما يستدعى خيال القارئ ويثير دهشته، “بيتنا المهجور” المقطع الأوّل يرمز إلى الفقد، الماضي الذي لم يعد حاضراً، والذكريات التي تلاشت أو باتت مهدّدة بالنسيان، يرمز إلى الصورة الكبرى إلى الوطن الذي هجر أهله عنوةً وترهيبا بالمجازر والقتل الممنهج الذي تعرّض له الشعب الفلسطيني على أيدي العصابات الصهيونية، فآلاف البيوت قد هُجِّر أصحابُها وصادرها المحتل، المقطع الثاني “متسمّرة على حائطه” رغم التهجير تبقى صورة الوطن والبيت حاضرة لا تغادر الأفئدة، فهي متسمّرة كما الوتد في أرض صلبة عصي على الاقتلاع، كما رسوخ الذكريات رغم مرور الزمن وتغيّر الظروف، والحائط هنا يرمز إلى الدعم والاستمرار، فهو جزء من البناء الذي ما يزال قائماً رغم كلّ شيء وإنْ تهدّم فالذكريات باقية لا تغادره!؛”كوفية!”: رمز الأكثر والأعلى حضورا للقضية الفلسطينية، للهوية الوطنية، وللنضال. الكوفية هنا تحمل دلالات المقاومة والثبات على المبدأ وعلى التجذّر والصمود وقوّة الموقف.
تقنية “السابي” حاضرة بقوة وهي ما يلحقهالزمن بالكائنات والأشياء والتي عبّر عنها “بيتنا المهجور” تبرز في النّص أيضاً تقنية “الشيوري”وهي الإيحاءات المنبعثة من النص دون التعبير عنهابصريح العبارة (الصمود والثبات وقوّة الحقّ) تقنية”الوابي” حاضرة أيضاً، وهي تلك اللحظاتالوجدانية التي تقف فيها الشاعرة أمام مرارة فقد الأرض ممّا يجعل الهايجن حزينا، إلا أنّه رغما عن ذلك يتثبت بالأمل لأنّ هناك من يعزِّز هذه الصورة -“الكوفية”- لتكون لحظة استنارة قوية وهو ما يُعرفبـ”الساتوري” أي لحظة التأمل وإخراج الفكرةوالحدث القوي المدهش الى نور الحقيقة .
خاتمة:
نقف أمامَ تَجارِبَ إنْسانيةٍ مُتعدّدةٍ وتأويلاتٍ عِدَّةٍلنصوص هايكو للأستاذة ابتسام أبو شقير، نصوص تستوعب جماليات قصيدةِ الهايكو، بل وتُضفي عليها طابعاً عربيا آسراً ومميّزاً. تلك اللغة المعروفة بقوّتها وثراء مفرداتها التي مكّنت الشاعر العربي من أنْ يكتب نصوصا طويلة مفعمة بالخيال وأساليب البلاغة الجامحة، لقادرة على أنْ تروِّض نفسها وتكبح جماح المجاز المفرط الذي يحول دون بساطة الهايكو، وهذا ما تفعله تمام شاعرتنا الفاضلة. وهو ما يتطلّبه الهايكو بشكل عام في هذه الكلمات المهمّة كما تلخِّصه الناقدةالنمساوية جودرون م جرابر: “لكي يأتي الهايكو إلى الوجود، يجب أنْ يكون الشاعر على اتّصال بالعالم، من خلال أشياء وأحداث مشتركة، بسيطة وصغيرة، يجب أنْ يكون قادرًا على رؤيتها وفهمها في سياق عام، وأنْيكون قادرًا على التقاطها بكلمات بسيطة ودقيقة وموجزة، من أجل مشاركة الآخرين الشعور الذي أثارته هذه اللحظة.
Views: 56