“قناع بلون السماء ” – تسقط أقنعة سارقي التاريخ!
منذر اللالا
” قناع بلون السماء “رواية تاريخية بقناع سردي متعدد الأصوات ومتعدد الثنائيات ومتعدد الصراعات ، لحكاية شعب ما يزال يواصل مقاومته المتنوعة لأقسى احتلال عرفه التاريخ ، لاحتلال يحاول سرقة ما تبقى من الارض وسرقة ما تبقى من الهوية والسطو على التاريخ.
يكشف القناع الذي ارتداه نور في الرواية كي يستطيع العيش وسط صعوبات الاحتلال ولكي يتجول بالارض التي سرقت من أهلها ولكي يواصل روايته عن سيرة مريم المجدلية بإعتباره دارسا للاثار في معهد الآثار الإسلامية في القدس، يكشف القناع عن وهم إمكانيَّة التعايش مع المحتل، فالاحتلال يرفض الفلسطيني بتعريفه فلسطينيّاً. كما يَلمح القارئ وهماً آخر تفتّته الرواية، وهو وهم التسوية السياسيَّة مع الاحتلال بالصورة التي هو عليها. كما أنَّ النص في جوهره، رفضٌ للهوية التي يريد الاحتلال فرضها على الفلسطينيّين؛ وما تأزم شخصية نور إلا تأزّم للشخصية الفلسطينية التي اعتقدت بإمكانية العيش مع الاحتلال. أقصد، العيش العادي الذي يتجاوز المجازر، يتجاوز العنصرية، يتجاوز التطهير العرقي.
هذا وهمٌ تنسفه الرواية. إذ يلقي نور نجمة داوود عن صدره، ويمزَّق هوية المستوطن التي انتحلها، ليخرج من تلك التورية بالكامل، وهو إلى جوار سماء في السيارة خارجاً من موقع التنقيب. وباعتقادي فإن القناع الأهم الذي تسقطه الرواية هو قناع التزوير وسرقة التاريخ من خلال الادعاء بأن فلسطين كانت لهم بآثارها وشجرها وسمائها حسب رواياتها التوراتية. فالرواية ومن خلال بطلها نور أو ” أور” كانت تترصد هذا التزوير من خلال عدة معطيات على أرض الواقع او في أعماق التاريخ ؛ فها هو نور يصرخ بكل قوته، أمام عدد من السياح وقد كان مرشدهم في مدينة القدس :
كلا سيداتي وسادتي.. كلا.. دعوني استسمح طُهر آذنكم وبراءة قلوبكم، وإخلاص ضمائركم المؤمنة بالخلاص القادم.. لأقول لكم إن كل ما تفوهت به منذ قليل ما هو إلا ترهات وخزعبلات لا أساس لها من الصحة.. فهنا سيداتي وسادتي حيث تقفون الآن تقع أنقاض وأطلال القرية العربية الفلسطينية صرعة.. التي نكب وهجر أهلها البالغ عددهم اربعمائة نسمة في شهر تموز من عام 1948 …بلى هجروا.. وها هم الآن يقبعون لاجئين ولاجئات في مخيمات اللجوء ..لقد دمرت العصابات الصهيونية القرية؛ لتشيد مكانها كيبوتس صرعة ..وهذا بيت مختار القرية يشهد على ذلك ..حيث تقفون انتم الان فوقه.. لا يوجد شمشون هنا ولا ما يحزنون .. لا يوجد بطل خارق.. لا يوجد قبور للابطال الخارقين.. ..
أما هنا حيث تقفون، فلا يوجد سوى نكبة شعب هجر من ارضه.
ويواصل نور استهزاءه بناتان – ضابط أمن مستوطنة مشمار هعيمق وهو في جولة سياحية ويبث اكاذيبه لهم: ” أجل كنت ساشوه سمعتك لو بحت الآن لاعضاء المجموعة المأخوذين بإنجازاتكم الحضارية الإشتراكية الصهيونية أن موقع كيبوتس هو أرض لقرية منكوبة اسمها ابو شوشة.. وأن هذا الكهف المقحم في نصوصكم القومية المقدسة ليس سوى مرتع لهو لاطفال القرية المهجرة.. بل كان يستخدم زريبة ايضا “.
ويكشف ردة فعل ناتان عندما واجهته احدى المشاركات :
هذه آثار قديمة يا عزيزتي.. هل نسيت أنك على أرض التوراة والعهد القديم؟!
وتوجد شواهد عدة في الرواية وباشكال مختلفة عن سؤال الآثار والتزوير الذي يشغل عقل الكيان وبأدوات متعددة ايضا، ومن هذه الادوات والتي ساهمت بإرساء قواعد الكيان المحتل لفلسطين ومهدت له – ما يطلق عليه مصطلح ” مستشرقون في علم الآثار ” وهو ما أشار اليه نور عندما تقدم بطلبه للتطوع في بعثة آثار نظمها معهد “اولبرايت” حيث ذكر أن ” المعهد يعد من أقدم مراكز الأبحاث الأمريكية الخاصة بدراسات الشرق الأدنى القديمة، وتأسس عام 1900 تحت اسم المدرسة الأمريكية للبحوث الشرقية، ومن ثم أعيدت تسميته في عام 1970 باسم عالم الآثار الامريكي الشهير المؤيد للنهج التوراتي في علم الآثار ويليام اولبرايت تكريما له على دوره في اكتشاف وتعريف أقدم مخطوطات التوراة، والتي عثر عليها في كهوف وادي قمران جنوب أريحا في مطلع القرن العشرين.
ويدرك نور في وعيه الداخلي حقيقة ما يقوم به المستشرقون في طمس وتزوير الحقيقة ، فيقول: أليس الاستشراق الذي هلكتني به هو من قضى على أنفاس المجدلية في بلادنا، وجعلها تترنم وتبتهل وتصلي باللاتنية واليونانية والفرنسية القديمة؟ ويكمل بإصرار دال على حقيقة ما يخطط له المحتل : أليس من حقي أن أستعيدها بمحاولة بحثية على الرغم من تفاهة قدري وتواضع موقعي الثقافي؟!
ويحضر قول إدوارد سعيد في كتابه المرجع ” الاستشراق” بأن أغلبية المستشرقين حتى منتصف القرن التاسع عشر، كانت من الباحثين التوارتيين الذين كانت معرفتهم بالشرق معرفة نصية تنطلق من نظرة توراتية تضع ماضي الشرق في سياق مستمد من الرواية التوراتية.
وأول من استخدم هذا المصطلح الاديب الفلسطيني الراحل محمد الاسعد – وهو قد أصدر كتابا تحت هذا العنوان : كتاب “مستشرقون في علم الآثار: كيف قرأوا الألواح وكتبوا التاريخ ” ومما جاء في الكتاب:
والنص التوراتي تحديداً لعب الدور الأكبر في رسم وكتابة تاريخ الشرق وشرقنا العربي فوضع تاريخه ولغاته وفنونه وآثاره المادية في سياقات غربية لا تنتمي إليه بقدر ما تنتمي إلى صورة متخيلة من المرويات التوراتية .التي كان من أهم نتائجها ” اختلاق إسرائيل القديمة ” وأهم ما في هذا الكتاب أنه يقلب الصورة رأساً على عقب، وهو سباحة ضد تيار الباحثين من مستشرقين وباحثين وعلماء آثار في الكتاب المقدس وتطويع نتائج أبحاثهم لتزييف التاريخ وخدمة للمصالح السياسية . وتجاهل الحقائق لإسكات التاريخ الفلسطيني. يضم هذا الكتاب سلسلة من الدراسات.. كانت نتيجة قراءات معمقة في كتب بعض علماء الآثار الغربيين المنشورة عن نتائج التنقيبات في فلسطين.
يقول الكاتب: إن رصد النزعة الاستشراقية في حقل علم الآثار يمكن أن يكشف عن أدلة وآلية العقلية الاستشراقية بصورة أشد وضوحًا من تجلياتها في الحقول الأخرى، وبخاصة حين تصل بالاستشراق إلى ذروته، فتعلن بلا مواربة أن غاية المعرفة هي الاستيلاء على الأرض. ويبرز الباحث كيف كانت نتائج كل التنقيبات التي جرت في فلسطين بواسطة عالمة الآثار “كاثلينن كينون”، حيث شككت في صحة روايات التوراة المترجمة – فهذه الباحثة التي نقبت حتى العام 1967 في فلسطين مشبعة بأفكار مسبقة مصدرها التوراة، وجدت أن كل نتائج تنقيباتها تدحض الادعاءات المسبقة التي كان آثاريون تقليديون قد نشروها، وأعلنت ذلك ببساطة، إلا أنها من جانب آخر لم ترد أن تصدم المشاعر والأهداف، أو قل: الأوهام التي تحتشد بها معاهد البحث التوراتية والجمهور العريض من الصهاينة الذي نشأ معتمدًا على أساطير أوائل المنقبين.
ويقول وإن علم الآثار التوراتي عجز عن إيجاد شواهد تدعم افتراضاته المسبقة، وهذا ما قررته (كينون) في محاضراتها التي جمعتها في كتاب تحت عنوان “التوراة والمكتشفات الأثرية الحديثة، وهذا ما يعني أو ما يقودنا إلى نتائج خطيرة وهي: انهيار الصرح الزائف الذي بناه علم الآثار التوراتي يعني انهيار أحد مرتكزات الكيان الاستعماري في فلسطين في الذهنية الغربية العامة.
يتطرق المؤلف أيضاً الدور الذي لعبته البعثات الأثرية التي تدفقت من الغرب على فلسطين عقب وقوعها تحت الاحتلال العسكري البريطاني عام 1917. وقد تركز اهتمام هذه البعثات على “الخلفية التاريخية للتوراة”، فألهبت بتقاريرها، والتي كانت تأتي في إطار توراتي وتختلق روابط بين المدن والقرى الفلسطينية وبين أسماء وأحداث توراتية، مخيلة الجمهور الغربي، وصورت إقامة كيان يهودي استعماري في فلسطين على أنها تجسيد للرؤيا التوراتية والوعد الإلهي! ولم يتوقف الأمر على إقامة علاقات نسب لفلسطين بالتاريخ التوراتي، بل كان الآثاريون التوراتيون كلما ظهرت آثار مدن في العراق أو اليمن أو تركيا أو مصر أو فارس… يسارعون إلى نسبة فنون هذه المدن ولغاتها وعقائدها إلى التوراة.
، وهنا يدور صراع لا يقل شراسة عن الصراع في الحاضر، ليس بالعودة إلى الماضي ومحاولة تغيير مساره كما يحدث في أفلام الخيال العلمي، بل بالهجوم على أخطر أنماط الذاكرة والتوثيق ؛ فقد قام الكيان وبشكل مدروس، في إخفاء الميراث الفلسطيني والأدلة الملموسة بسبب مصادرة الإسرائيليين المتعمّدة للمصادر الثقافية العربية (مثل مكتبة توفيق كنعان عام 1948، ومتحف الآثار الفلسطيني ومكتبته عام 1967، والسطو على سجلات المحاكم الشرعية ..الخ.
وقد كان الفلسطينيون، من أكثر الشعوب التي تعرّضت للاستبعاد في المجال التاريخي، وكانت الغاية، لدى صانعي القرارات السياسية والتاريخية من بعد، هي خدمة الرواية الإسرائيلية أو الصهيونية عن فلسطين، لكن عبثا يحاولون لأن ما سوف يجدونه في باطن الأرض هو الفلسطيني !
ما قدمته الرواية من ضمن عدة ثيمات، هي أنها كشفت عن عمق العلاقة بين الانسان وأرضه، وأن غياب هذه العلاقة تقود إلى موت الهوية.
Views: 33