مصر.. من حملة إبراهيم باشا إلى وسيط لا حول له
محمد أبوعريضة
حملة ابراهيم باشا على بلاد الشام 1831 – 1833، وسيطرة الجيش المصري على كل الأراضي الممتدة من سيناء وحتى أعالي نهر الفرات، وضع مصر على خارطة العالم الجديد، الذي أخذ يتشكل بعد الثورة الفرنسية، وصعود البرجوازية الأوروبية، وتشكل قوى تمتلك فائض قوة، أخذت تفكر في غزو مناطق بعيدة، حيث المواد الأولية اللازمة لتشغيل مصانع البرجوازية الأوروبية الصاعدة، إضافة إلى السيطرة على الطرق التجارية.
حاول السلطان العثماني عام 1839 استعادة بلاد الشام التي سيطر عليها الجيش المصري ، فجهز ابراهيم باشا جيشه وزحف نحو الأناضول إلى أن دارت معركة “نزيب”، التي استطاع فيها جيش ابراهيم باشا من سحق الجيش العثماني، فأمست الدولة العثمانية على وشك الانهيار، ما دفع بريطانيا والنمسا ودول أوروبية أخرى للتدخل ومساندة الدولة العثمانية، وأجبرت الجيش المصري بالقوة على قبول نتائج معاهدة لندن الموقعة عام 1840 بين المملكة المتحدة والإمبراطورية النمساوية وبروسيا وروسيا القيصرية من جهة والدولة العثمانية من جهة أخرى، والانسحاب من مناطق في بلاد الشام. لكن الأهم من كل ذلك أن حملتيّ ابراهيم باشا نبهت القوى البرجوازية الصاعدة في أوروبا إلى أهمية مصر، وإلى ما تمتلكه من قوة كامنة يمكن أن تشكل خطرًا كبيرًا على مصالحها في منطقتنا، ولا سيما أن دول أوروبية كانت تتطلع لوراثة الدولة العثمانية التي كانت قد بدأت عليها مظاهر الشيخوخة، وتتداعى أركانها وإن بشكل غير متسارع في تلك الفترة.
بعد محمد علي وابنه ابراهيم، جاء الحفيد اسماعيل، لكن هذا الحفيد لم يكن يمتلك رؤية استراتيجية لأهمية مصر وللقدرات الكامنة لديها، كان جده ووالده قد اكتشفاها. من أبرزها أن مصر دولة تمتلك جهاز إداري حكومي عمره أكثر من سبعة آلاف عام، ومصر تملك إرث حضاري ضارب في العمق، وهي تمتلك موقع استراتيجي خطير، فهي بوابة إفريقيا وبوابة الشرق الأوسط، ومطلة على البحر الأبيض المتوسط وعلى البحر الأحمر، ناهيك عن أن الشعب المصري الكبير العدد يمتلك قدرات كامنة كبيرة، جرى احتجازها لقرون بسبب سيطرة قوى عليها لا تعرف أهمية مصر الاستراتيجية، فالحضارة المصرية ما زالت آثارها حاضرة على مرآى أمام أعين الجميع.
أقول: اسماعيل باشا اعتقد، كما اعتقد السادات بعد قرن وثلاثين عامًا، أن التقرب من الدول الأوروبية وتقديم تسهيلات لهم في مصر، سينقل بالتأكيد التجربة الأوروبية إلى مصر، فاستثمرت البرجوازية الأوروبية لهفة اسماعيل باشا في نقل التجربة، وتقليد أوروبا، كما استثمرت أمريكا هذه اللهفة فيما بعد لدى السادات، الذي قال: 99% من أوراق اللعبة بيد أمريكا.
أخذت البرجوازية الأوروبية تخطط للسيطرة على مصر، بدأتها بشق قناة السويس 1869، وأنهتها باحتلال مصر عام 1882، وإذا بمصر بعد وفاة محمد علي وابنه ابراهيم بثلاثة عقود تصبح تحت السيطرة الكاملة للبرجوازية الأوروبي. وهو ما حدث بعد وفاة جمال عبدالناصر ومجيء السادات عام 1970، فبعد أقل من خمسة أعوام على غياب عبدالناصر صاحب المشروع المشابه لمشروع محمد علي، وهو أن الأمن القومي المصري يبدأ من دمشق، أصبحت القاهرة الحليف الأكثر أهمية لأمريكا بعد الكيان الصهيوني وإيران الشاه.
قوى الاستعمار الأوروبية، وهي تعيد رسم منطقتنا قبل وأثناء الحرب العالمية الأولى، كانت تنظر إلى الجائزة الكبرى “مصر”، فالسيطرة الدائمة عليها يعني السيطرة الدائمة على حقول النفط وعلى خطوط النقل وعلى المنطقة الممتدة من المغرب وحتى الهند ومن الأناضول في الشمال وحتى أقصى جنوب إفريقيا، لكن السؤال الذي كان دائم الحضور أمام المخططين الأوروبيين، ولا سيما بريطانيا وفرنسا: كيف نديم السيطرة على مصر؟
تفتق الذهن الاستعماري الأوروبي على فكرة شيطانية، تمثلت بزرع كيان هجين يمنع مصر من النظر إلى الشمال، ويحجز طموحاتها ويحولها إلى قوة إقليمية ضعيفة في إفريقيا. التقت توجهات البرجوازية الأوروبية مع التطلعات الصهيونية بإنشاء “وطن قومي لليهود”، وإذا بمعاهدة “سايكس – بيكو” 1916 التي قسمت الشرق العربي بين بريطانيا وفرنسا، وتبعها بعد عام “وعد بلفور” البريطاني، الذي تعهدت فيه بريطانيا بإقامة دولة لليهود في فلسطين، تجيب عن السؤال: كيف نديم السيطرة على مصر؟ والجواب هو “الكيان الهجين” – إسرائيل -.
خلاصة القول إن الهدف الغربي من إنشاء الكيان الصهيوني في فلسطين هو منع مصر من تحقيق تطلعاتها في النهوض، واستنهاض القوى الكامنة فيها، واستعادة تجربة محمد علي وابنه ابراهيم. إذن الهدف من إقامة الكيان الصهيوني إدامة السيطرة على مصر، ومنعها من النهوض، وفي آخر الزمان تمسي مصر “وسيط” لا حول له ولا قوة بين المقاومة الفلسطينية والكيان الصهيونية.
Views: 19