” أنسنة المكان وعلاقته بالشخصيات في رواية “الأرض.. والقلوب النّادرة” لـ”محمد حزيّن
قراءة: منذر كامل اللّالا
إذا كُتب لك أن تكون فلسطينياً، فهذا يعني أن يكون لك جحيمك الذي يسكنك كأي عضو آخر من أعضاء جسدك، أما إذا كنت فلسطيناً وكاتباً فعليك إذن أن تحتمل معاناة الاحتلال والكتابة، واختلاس اللحظات السعيدة من براثن الغول.
في روايته الأولى ” الأرض .. والقلوب النادرة “، يأخذناً الاستاذ محمد حزين إلى عوالم شتى، ملونة وعذبة وسوداوية كلَيْل فلسطين الذي لا ينتهي. في رواية مكتوبة بطريقة جاذبة يمزج فيها الكاتب التاريخ مع السيرة الذاتية مع أدب الرسائل، إلا أن القاسم المشترك هو لغتها السلسة والتي تنساب كماء جدول وتنطلق الكلمات لتملأ الصفحات دون جهد أو تعب، وكأن الكاتب يمارس التداعي الحر دون رقيب أو حسيب؛ لذا رأينا بعض الجمل التي تصدم القارئ بواقعيتها وعفويتها .
فالرواية لا قالب يحكمها أو نوع، وتشبه حياة الروائي الذي قضاها في البحث وبث التوعية وتثبيت القيم والتحذير من العدو الرابض على الآرض والذي يحاول التغلغل في كل جوانب حياتنا.
من وظائفِ الأدبِ إعادةُ اكتشافِ عمقِ العلاقةِ بين الإنسانِ وأرضِه، وأنّ غيابَ هذه العلاقةِ تقودُ إلى موتِ الهويّة.
في روايتِه بعنوان “الأرض والقلوب النادرة” للأستاذ الروائي محمد محمود حزيّن نقرأُ سرداً يعتمدُ الرّاوي العليم، والذي يضطلعُ على سيرةِ ثلاثةِ أشخاصٍ من جيلِ النكسة، ولكنّها تعدّ أبعدَ من ذلك ‘ كونُها تسعى إلى سردِ التاريخِ الفلسطينيِّ وتوابعِه الإنسانيّةِ والاجتماعيّةِ بعد النكسةِ تحديدًا، وتنتقلُ بشكلٍ رشيقٍ إلى عدّةِ قضايا عربيّةٍ أخرى، كما في لبنانَ والجزائرِ ومصر. فالروايةُ تشهدُ انعطافاتٍ مهمّةً حدثتْ في عدّةِ بلدان، مثلُ الفسادِ المالي، وانهيارِ القيم، ووهمِ الأحلام، وخواءِ أنظمةِ النّضال. وعلى الرّغمِ من تصنيفِ الرّوايةِ بأنّها روايةٌ واقعيّةٌ سيريّة، إلّا أنّها حلّقت عالياً باتّجاهِ بثِّ الأفكارِ والمواقفِ والتاريخِ نحو فلسطينَ والقدس، حيث تعرّي تاريخَ المؤامراتِ التي أحاطت بفلسطين ‘ وساهمت في إحكامِ قبضةِ الصهيونيّةِ عليها. كلُّ ذلك بخبرةٍ واقعيّةٍ (شخصيّة) تتداخلُ في كثيرٍ من الأحيانِ مع المتخيَّلِ السرديِّ أو تستندُ إليه بذكاء..
تدورُ أحداثُ الرّوايةِ في زمنين مركزيّين يتناوبان سيرةَ شخصيّاتِ الرّواية: الزّمنُ الأوّلُ يتحدّدُ مع النكسةِ ومرحلةِ الدّراسةِ ودخولِ الجامعات، والزمنُ الثاني يبدأُ من مرحلةِ العملِ والعائلةِ مرورًا بالاغتراب. الروايةُ كما أوضحَ كاتبُها تغطّي الأعوامَ من 1967 – 1982، مع ما يستدعيه ذلك من استرجاعٍ أو تقديم، وتنهضُ على محوريّةِ الشخصيُاتِ الثلاث، الذين يسكنون عمّان. تجسّدُ الروايةُ في تكوينها رسمَ علاقةِ الأخوّةِ بين المكوِّنين الفلسطينيِّ والأردنيُ، من خلال العلاقةِ المتينةِ بين الشخصياتِ الثلاث: أحمد وعاصم وعادل. وهنا تبدو الروايةُ قائمةً على رسمِ ملامحِ تطوّرِ تلك الشخصيّات، التي تعدُّ قاسماً مشتركاً في معظمِ أحداثِ الرّواية. فنراهم معًا في مرحلةِ الدّراسةِ الإعدادية ‘ ومن ثمّ شباباً متحمّسين للجامعةِ ولدراسةِ التخصّصاتِ التي تناسبُهم، حتّى اكتمالِ مرحلةِ نضوجِهم واشتراكِهم في العملِ ضمن مشروعٍ متكاملٍ وتكوينِ العائلة. يكتملُ مشهدُ الألفةِ والصداقةِ ضمن مواقفَ صعبة ‘ يتعرّضُ لها أبطالُ العمل، لنصلَ إلى قناعةٍ تامّةٍ تتماهى مع عنوانِ الرّواية ‘ بأنّهم يملكون قلوبًا نادرة!
ولعل ما يميِّزُ الروايةَ الفلسطينيّةَ عن الرّوايةِ العربيّةِ بعامّة هو علاقتُها بالمكان: أنْ تكتبَ عن أرضٍ محتلّة، ومحاولةِ استعادتِها بالحنينِ والوثيقةِ والذّكرياتِ والمقاومة. فههنا قرى مدمّرة، وبياراتٌ مغتصبة، ومخيّمات، ومنافٍ، ومستعمرات، وجدرانٌ عازلة. كلُّ هذه المفردات -وهي من معجمٍ دلاليٍّ واحدٍ وهو: معجمُ الاحتلال والحرب- أفرزت نصّاً مختلفاً عن سواه، بخطابٍ روائيٍّ ينهضُ على «الإحساسِ المظلمِ بالفضاء»، والتناوبِ بين «حلمِ الوطنِ وحقيقةِ المنفى». شريطٌ طويلٌ من المدنِ والقرى المستعادةِ في الحكاية، كما لو أنّها فردوسٌ مفقود، تتأرجحُ بين «هنا/ وهناك»، فيما تحضرُ مدينةُ القدسِ بكلِّ تجلّياتِها المكانية ‘ كأيقونةٍ مقدّسة. على المقلبِ الآخر، يلجمُ المنفى أحلامَ الفلسطينيِّ ويشدُّه إلى واقعٍ مختلف.
بدأت الروايةُ في الحديثِ المكانيِّ عن القرى التي تحيطُ بالقدس مثل: عين كارم والولجة ودير ياسين والمالحة وسلوان والعيزرية وبيتونا. وقد وصفها الكاتبُ بأنّها “تحتضنُ القدسَ كأنّها خائفةٌ عليها من الضياع ‘ أو أنْ يصيبَها أيُّ مكروه” ص-9 في عام 1946. ينقلنا الكاتبُ بعدها إلى الخامسِ من أيّارَ عام 1967، حيث النكبةُ وحيث بدايةُ المعاناةِ لشعبِ فلسطين وبتقنيةِ أنسنةِ المكان، التي تتيحُ للمكان نفسِه أنْ يصبحَ كيانًا نابضًا بالحياة، قادرًا على التّفكيرِ والتّحدّثِ والشعورِ مثلَ البشر. تُستخدمُ هذه التقنيةُ لتجسيدِ الأحاسيسِ والمشاعرِ العميقةِ المرتبطةِ بأماكنَ معيّنة، وغالبًاً ما تُستغلّ لإضفاءِ بُعدٍ دراميٍّ أو عاطفيُ على النّصِّ الأدبيّ، ممّا يعمِّقُ من قدرةِ العملِ على التأثيرِ في المتلقي؛ ويجسِّدُ الكاتبُ هذه التقنيةَ عبرَ النّداءِ والحوارِ المتخيّلين بين القدسِ ومن تهجِّروا عنها كَرهًا. فيقولُ في ص-11: “أين تذهبون وتتركوني؟”، فيكون الردّ: “آسف يا قدسُ لم نستطعْ أبدًا حمايتَك ‘ فكان القدرُ أقوى بكثيرٍ من قوّتنا، واكتشفْنا يا قدس كم نحن ضعفاء ‘ وكم نحن حجارةّ شطرنجٍ يلعبون بنا”. حيث استطاع الكاتبُ أنْ يجسّدَ مأساةَ النكبةِ بشكلٍ أكثرَ تأثيرًا وعمقًا، حيث تصبحُ الأرضُ نفسُها شريكًا في المعاناة، تتألّم، تتساءل، وتبحثُ عن إجاباتٍ ما تزالُ مفقودةً إلى يومِنا هذا..
وبقيت القدسُ وبقيت فلسطينُ ترافقُ الكاتبَ طوالَ مسيرةِ الرّواية. فهناك مريم، زوجةُ عادل، وهي فتاةٌ من الضّفةِ الغربية، جميلةٌ جدًا ومنفتحةٌ وذكيّةٌ ومبتسمةٌ دائمًا، تلقي شعرَها الحريريَّ المربوطَ على ظهرها – فتاةٌ فلسطينيّةٌ حتّى النخاعِ ‘ حتّى في اللهجة. وفي ملمحٍ آخرَ يصفُ الكاتبُ لماذا يحبُّ عادلٌ مريم: “أحبَّها كما يريدُ لأنّها مغتربةٌ جاءت من الضّفّةِ الغربيُةِ بلكنةٍ فلسطينيّةٍ وجريئة- لهذا فعادلٌ يعشقُ رام الله والبيرة والقدس وترابَ فلسطين.. رأى في هذه الفتاةِ كلَّ فلسطين ‘ وتمسّكَ بها ويدافعُ عنها كأنّه يدافعُ عن فلسطين” ص-73. وهناك وفاء، التي استُشهِدَ والداها في حرب 1948 – وفاءُ التي لقّنت مدرِّستَها درسًا في احترامِ اللّهجةِ الفلسطينية، تقول وفاء: “قال لي أبي: إيّاكِ والوطن، إيّاكِ والثوب، إيّاكِ واللّهجة، إيّاكِ والقدس، فنحن بدون القدسِ لا وجودَ لنا” ص-25. وتقول أيضًا: “أنا من القدس، من بيت الرّب، وهناك ينتهي الزمن”.
وأثناءَ وجودِ عاصمٍ في الجزائر، حيث سكن مع طالبٍ من ليبيا ومع طالبين من الجزائر، كان والدُاهما من كبارِ الثّوارِ القدامى. حيث استفاضَ عاصمٌ في الحديث عن فلسطينَ أثناء استضافتِه من قِبَلِ صاحبَيه الجزائريَّين، وقال عن عين كارم: “فهي العينُ التي شربت منها السيّدةُ مريمُ أمُّ المسيحِ عليه السّلام، فهذه المناطقُ أيّها العمُّ كلُها مقدّسة ‘ فهي تبعدُ عن أقدسِ منطقةٍ في العالم، مدينةِ القدس، مدينةِ الصّلاة، خمسةَ كيلومتراتٍ فقط. وهذه القريةُ ومعها القرى الفلسطينيةُ التي هُجِّرَ سكانُها بالقوّةِ في حربِ الـ 48” ص-81.
روايةُ “الأرض والقلوب النادرة” مسكونةٌ بالكثير من القضايا التي تحتاجُ التأمّلَ في سياق تلك الأزمنة. يمكنُ أنْ نقرأَ إشاراتٍ سرديةً قائمةً في وعي الرّوائيِ استمدها من قراءاتِه وتجاربِه وخبراتِه على أرضِ الواقع. كما في وصفِه معاركَ بيروت وترحيلَ المقاومةِ ومجزرةَ صبرا وشاتيلا ‘ ومن يقفُ خلفَها. وأيضًا من خلال تتبّعِه للعقيدةِ الصهيونيّة، الّتي بدأت في التّحضيرِ لاحتلالِ فلسطين منذ العام 1882، حيثُ قَدِمَ اثنا عشرَ شخصًا من حركةِ “بيلو” الصهيونيّةِ مبحرين من رومانيا ونزلوا في يافا وأسّسوا فيها أوّلَ مستعمرةٍ يهوديّةٍ في فلسطينَ باسمِ “ريشون ليتسيون” ومعناها “الأوّل في صهيون”، وكانت هذه أوّلَ مستعمرةٍ يهوديّةٍ صهيونيّةٍ في فلسطين. يُكْمِلُ الروائي قائلاً فيما يشبهُ العتبَ والاستنكار: “والعربُ طبعًا لا يعرفون حتّى لو عرفوا!!”. فالكاتبُ هنا يسعى لأن يقيمَ قراءةً تاريخيّةً ذاتَ بُعدٍ سوسيولوجيّ ثقافيُ ‘ للفترة الزمنيّةِ التي تستندُ إليها الرواية، ويؤكّدُ رؤيتَه من خلال تدخّلِه في ثنايا الرواية. كما في صفحة 212 وبعد خذلان المقاومةِ من قِبَلِ العرب: “فلماذا يتدخّلون؟ الجميعُ يريدُ الخلاصَ من هذه المقاومة ‘ والجميعُ يأخذون الأوامرَ من أمريكا، وإذا قال أحدُهم أو اعترض، سيطيرُ الكرسيُّ من تحته” ص-212. وغيرُها من الاستدلالات التي تحتويها الرواية، حيث التركيزُ على الوعيِ الجمعيِّ في ذكرى حرقِ المسجدِ الأقصى عام 1968، حيث لم تصدّقْ غولدا مائير عينيها عندما خرجت لتلقي نظرةً على ما حدث في اليوم الثالث وقالت: “اصبروا على العرب ثلاثةَ أيّام، وفي اليوم الرّابع سينسون وترجعُ الحياةُ كما كانت”. يقول الكاتب: “العربُ قد ينسون.. لكنّ الفلسطينيين لم ولن ينسوا فلسطين”. فالشعبُ الفلسطينيُّ، كما جاء في الرواية عظيم. يقول الكاتب: “العالم يعلّمُ الطفلَ الرضيعَ أن يقول بابا – ماما.. إلّا الشعبَ الفلسطينيَّ ‘ يعلّمُ الطّفلَ الرّضيعَ أنْ يلفظَ أوّلَ كلمة: فلسطين”.
اعتمدَ “محمد حزيّن” في روايته على المزج بين الواقعِ والخيالِ من خلالِ نسْجِ حبكةٍ خياليّةٍ واقعيّةٍ في أغلبِ الأحيان، ودمجِها مع أحداثٍ تاريخيُةٍ معروفةٍ من التاريخِ المعاصر، كالنكبة عام 67 او اجتياحِ بيروتَ عام 82 .
في ختام الروايةِ نواجهُ خلاصاتٍ دلاليّة، ولا سيما حين يربطُ عادلٌ حبَّه لمريمَ بفلسطين ، يقول : “أحبّك يا مريم كما أَحبَّ المسيحُ أمَّه مريم ، معكِ أسرعتُ إلى طريق الآلامِ في القدس العتيقة ‘ وسرتُ فوق خطى المسيحِ التي سار عليها، وأنا ألهث: أنت أيّها المسيح ‘ سرتَ في هذه الطّريق وأنت تحملُ على ظهرك الصّليبَ الخشبيَّ الكبير ‘ وأنا مثلُك الآنَ أسيرُ’ في خطواتِكَ أحملُ في قلبي حبَّ مريمَ الكبير، فأنتَ كنتَ تسيرُ وأنت تتألّمُ وأنا أيضا أمشي وأنا أتألّم ‘ وفي نهاية الطّريقِ رفعك اللهُ إليه وانتهت آلامك” ص- 409 – وهذا يعيدُني تلقائيّاً إلى ما قاله غسّان كنفاني في روايته الخالدة “عائد الى حيفا”: «أتعرفين ما هو الوطن يا صفيّة؟ الوطنُ هو ألّا يحدثَ ذلك كلُّه». العبارة تبدو أقربَ إلى خلاصةٍ لا تبدو واضحةً من حيث إحالةُ مآلاتِ الأمور، والمسؤولُ عنها. وهذا أيضا ما نقلَتْه لنا روايةُ “الأرض.. والقلوب النادرة..”
Views: 46