كاتب

مشروع الأديب “يحيى القيسي” السردي…توليفة فكرية صوفية فلسفية تأملية في رحلة الحياة والإنسان


بقلم: صفاء الحطاب
أطلق الكاتب والقاص والإعلامي يحيى القيسي مشروعه الروائي الإنساني في عام 2006 بصدور روايته “باب الحيرة” ثم “أبناء السماء”، “الفردوس المحرم”، “بعد الحياة بخطوة” وأخيرا رواية “حيوات سحيقة” عام 2020
اشتبك الكاتب ذاتيا مع نصوصه، وقدم في مشروعه تجربة إنسانية معرفية تأملية بحثية محلقة في فضاء الإنسانية، ليجيب عن الأسئلة الكبرى عنا وعن الوجود والكون والبداية والنهاية معرفيا وفلسفيا انطلاقا من الماورئيات التي حفر فيها عميقا، ليقدم معرفة مادية تفسر أبعادا روحية غامضة، ولو تتبعنا مدخل كل رواية من رواياته الخمس سندرك ذلك الاشتباك والتدرج المعرفي الفلسفي بوضوح، فقد بدأت “باب الحيرة” بقول الحلاج: “من لم يقف على إشاراتنا لم ترشده عباراتنا”، ثم جاء تنويه في مقدمة “أبناء السماء” موجه للقارئ “إن كنت ترى في هذه الرواية خيالا جامحا محضا لا يقترب من الواقع فأنت محق في ذلك، وإن وجدت فيها حقائق صافية تفوق الخيال نفسه، فأنت محق في ذلك أيضا!
ثم رواية “الفردوس المحرم” التي بدأت بقول الكاتب على لسان معلمه، “وقال لي: افتح قلبك للحب، وعقلك للمعرفة تكن من الخالدين”
وابتدأت رواية “بعد الحياة بخطوة” بالآية الكريمة: “فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد”، وأخيرا كان الختام في مطلع “حيوات سحيقة”: “إلى فرسان الأنوار العلوية في رحلتهم الأرضية”
وكأن يحيى القيسي يضع علامات مضيئة في طريق القارئ المتتبع لرحلته الوجودية، التي تبدأ بالحيرة المطلقة وبحث الروح عن الراحة الأبدية، ليفتح أمام القارئ أبوابا من الحيرة وليس بابا واحدا في رحلة الإنسان الوجودية، والتي بالنتيجة ستتقاطع مع رحلة كل قارئ، وليطرح فكرة فلسفية عميقة عن رحلة البحث التي يخوضها كل منا، وكيف يمكن أن تتحول رحلة التثبت من “اليقين” إلى “لا يقين” مادي يقابله إيمان عميق باختلاف نموذج الإنسان، وازدواجية روحه وفكره وأشواقه وتلك النفحة الإلهية، وماديته وطينه وحاجاته المقيدة،
ثم انتقلنا إلى رحلة بحثية تفصيلية لكل ما افترضه وتخيله الإنسان بتفكيره المادي لتفسير ما هو غير مادي وروحي، وقدمت رواية “أبناء السماء” محاولة بحثية وصوفية عميقة لردم الفجوة بين رحلة القلق الوجودية بسبب عدم قدرتنا على الإلمام بالغيبيات والماورئيات، والتي ننتمي نحن لعوالمها بصورة ما مع حضورنا غير الكامل في العالم المادي الملموس، وقدمت لنا الرواية حالة من الراحة المؤقتة للروح بتواصلها مع الكون أثناء بحثها عن العالم الذي تنتمي إليه.
ثم أكملت “الفردوس المحرم” ما بدأت به “أبناء السماء”، وقدمت تصورا عن أصل الخلق، والأجساد الأثيرية وقدراتها العلوية، والقدرات الهائلة التي كان الإنسان يتمتع بها في أبعاد مختلفة وحضارات بائدة، وقدم القيسي للقارئ فكرة مدهشة وملهمة ومحفزة للخلاص من الحيرة والضياع بأن هناك عالم كالجنة تماما ولكنه أرضي ويمكن الوصول إليه بالانطلاق من الروح والارتقاء بها بالحب والمعرفة الكونية العميقة الناتجة عن التأمل، واستعرض كل المعوقات التي اختلقها البشر وتسببت في فقدانهم الاتصال بذواتهم وعوالمهم الروحانية الشاسعة، أي أنه أشار إلى إمكانية الخلاص، مع استمرار رحلة الحيرة لمن لم يتلمس طريق ذلك الخلاص.
ثم قدمت رواية “بعد الحياة بخطوة” عالما مدهشا أعلى وأرقى من عالم الأرض، هو عالم الممر أو البرزخ، لا يتعارض مع ما قدمه الدين من تصورات، لكنه مختلف وتفصيلي، وفيه راحة وتحليق للروح، وخلاص من كل ما يكدرها في عالم الأرض من ندم وألم ومعاناة، وجاء كتاب “الأنوار والأسرار” داخل الرواية كخلاصة مكثفة ومختزلة لما يمكن أن ينتظرنا من نعيم مقيم وراحة في العالم الآخر.
ثم صدرت “حيوات سحيقة” التي كانت مسك الختام، كالثمرة الناضجة التي قدمت خلاصة ما يمكن أن ينتج عن رحلة بحث وتفكير وجودية، قدمت نماذج من التوحش البشري عبر الأزمنة المؤذية للروح والطامسة للنور الإلهي فينا، وقدمت جوانبا من الصراع بين الشرق والغرب على مستوى الفكر والثقافة والإرث الحضاري الممتد من الماضي، وتمثلت عبقرية الكاتب في الربط بين التطرف وبعض المفاصل التاريخية المعقدة من تاريخ منطقتنا، وكأنه يؤكد على فكرة الامتداد والانتقال والعبور للأفكار عبر الأزمنة، كما ننتقل ونعبر نحن عبر العوالم الروحانية والمادية.
قدم الكاتب مشروعه الروائي بلغة عالية، وتقنيات سرد متنوعة ومتعددة خدمت فكرة المشروع، فقد استخدم تقنية الخلط بين الحقيقة والخيال وخلق عالم مواز يدخله الكاتب للغوص في أفكاره الفلسفية بنفسه، مما يجعل القارئ متحفزا للتفكير فيما يقرأ، والتفاعل معه، وتداخلت الأصوات أثناء السرد، وتعالت على صوت الرواي العليم، وجاءت الشخصيات مبنية بأسلوب ثنائي يجعلها طيفية بصورة ما إلى جانب حضورها الحقيقي والفاعل، واستطاع الكاتب أن يوصف العلاقات الإنسانية بتجرد دون الإشارة إلى مستواها الاجتماعي أو توجهاتها الدينية، فالإنسان بكينونته الداخلية ورحلته الوجودية كان هو محور المشروع الروائي بصفة عامة،
أوضح القيسي بعض الومضات الفكرية والفلسفية العميقة بكلمات مباشرة عندما تحدث عن الزمن وفلسفة الوقت، وكيف أن الحاضر قادم من المستقبل وممتد إلى الماضي، فلا توقف للزمن، ولا فواصل بين محطاته،
وأن كل ما مر بنا من ذكريات وومضات تؤكد بأننا امتداد لحيوات بدأت بالخلق وستنتهي بالموت الذي هو في الحقيقة عبور لعالم آخر أكثر رحابة وعدلا وجمالا.

Views: 61

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى