“هزاع البراري يكتب الحكاية في “البحر الأسود المتوسط” لعله يبعث الحياة في أصحابها”
صفاء الحطاب
رواية تحملنا أمواج بحرها الأسود إلى الشتات والضياع والتشظي الذي يعيشه أبناء هذه المنطقة من العالم، وكأنه بحر يتوسط واقعا أسود فيصطبغ بلونه بحكم الجوار والتأثير المباشر بين الإنسان والمكان والظروف المحيطة حالكة السواد فجاءت الرواية قاتمة، لكن بذكاء يخدم رؤية الرواية العامة.
استخدم البراري تقنية سردية خاصة تنتقل بالقارئ بين قصص الشخصيات دون مقدمات، وتغوص في تفاصيل الشخصية النفسية والاجتماعية ومشاكلها مع ذاتها ومع محيطها، ثم ننتقل لشخصية أخرى بكل تفاصيلها وهكذا، مما يجعل القارئ متأهبا يقف على رؤوس أصابعه حتى لا يفقد أطراف الخيوط الدرامية التي ستترابط مع بعضها في مرحلة لاحقة من الرواية يقوم الكاتب عندها برفع الستارة عن كل ما كان غامضا من أمور وتفاصيل خفية وعلاقات بين كل شخصية ومحيطها في عالمها الخاص بها.
تعتمد الحبكة على حركة شخصيات محورية ومهمة كل في عالمه، كريم الصحفي الأردني المختص بشأن الحروب والجماعات الإرهابية لصالح جهة وكالة أنباء أجنبية، والذي تبدأ معاناته منذ الطفولة بانفصال والديه ثم زواج والدته وسفرها إلى أمريكا، وأثر تلك الحادثة عليه إلى الأبد، وانضمامه في لحظة ضعف للمسجد واهتمام الشيخ عكرمة به اهتماما صادقا لكنه كان موجها بلا شك نحو قضايا معينة ستؤدي إلى اهتمام والده بتوجيهه نحو سعة الاطلاع من مصادر مختلفة وحثه على الوسطية والاعتدال وسعة الأفق، وعلاقته المضطربة بوالده الذي يربطه بالماضي الصعب، لكنه بطريقة ما يدفعه إلى الأمام ويحاول أن يساعده في تجاوز مشكلاته النفسية، لكن تتعقد الأمور بظهور ابن له اسمه وليام بعد عشرين سنة من زيارة سريعة للسويد ومن علاقة عابرة بامرأة سويدية اسمها فيرا، وكأن كريم له وجه آخر من التشظي والضياع وفقدان الهوية تصورها معاناة وليام ومحاولته البحث عن أصوله والتحقق عبر إثبات نسبه.
كريم هو الشخصية التي تشتبك معها كل خيوط الشخصيات الأخرى بحكم عمله صحفيا، وكأن الكاتب يشير إلى دور الأردن المشتبك مع دول الجوار بحكم الجغرافيا والتاريخ، وامتداد ظلال ما يدور في المنطقة على جميع الدول المجاورة.
الشخصية الثانية لطفي السوري طبيب الأسنان الذي يجد نفسه محاصرا بالموت والدمار ومضطرا إلى مغادرة سوريا برفقة زوجته وابنتيه في ظروف مأساوية ومرعبة، ينتهي بهم المطاف في مخيم لجوء في مدينة غازي عنتاب، ثم تنقذهم شهادته ودرجته العلمية ويعمل كطبيب أسنان مع الجهات الدولية الإغاثية وتتحسن ظروفهم مؤقتا، إلى أن تنتهي حياة تلك العائلة بظروف دراماتيكية بموتهم تحت أنقاض شقتهم في زلزال تركيا المدمر.
الشخصية الثالثة رشا الشابة التي تهرب من واقعها المؤسف غير المستقر لأسرة فلسطينية مهاجرة من يافا إلى الأردن، والتي تعاني من تداعيات هروب جدها المناضل في صفوف المقاومة الفلسطينية في لبنان، ومغادرته الأردن والهرب إلى جهة غير معلومة، يظهر لاحقا أنها ألمانية التي أصبحت منفاه الاختياري الذي يعيش فيه وحيدا بعيدا تعيسا برغم الأموال والشركات التي يملكها، إذ تبحث عنه رشا وتجده وتسافر للعيش معه، لكنها لا تحتمل غرابته، فترحل إلى بلد آخر، ثم يصلها خبر انتحاره وكأنه لم يعد يحتمل هذا الشقاء العميق من الاغتراب والوحدة.
وأخيرا الشيخ أبو حذيفة المصراتي الليبي الذي يكون طالبا ماركسيا في لبنان ثم يفقد ثباته بموت رفاقه دون طائل في معركة غير واضحة المعالم، طحنت في طريقها وداست زهرة حيوات شباب كصديقه نمر الذي كان يدرس الطب في فرنسا الشاب الوسيم والذكي الذي كان يستحق الحياة لكنه مات لأجل فكرة مسروقة سلفا، وما كان هؤلاء الشباب إلا وقودا لحرب مجنونة تتحكم بها أيد خفية لا تأبه بهم ولا تقيم لتضحياتهم وزنا، فيقرر أبو حذيفة ترك كل شيء والانتقال إلى مصر لينضم إلى الجماعات الإسلامية هناك بحثا عن راحة مفقودة لا تتحقق فعليا، ثم يتم إبعاده إلى بلاده دون أن يحصل على شهادة تاق هو وأهله إليها، بل عاد محطما ضائعا يتلمس سبل النجاة بروحه، ليجد أن البحر الذي يمكن أن يحمله دون قيود هو المكان المناسب ليقضي بقية حياته هناك، وتطورت الفكرة إلى أن يمتهن عملا غريبا لعله يحقق بعضا من تلك الراحة المنشودة في تهريب المهاجرين والأرواح المحطمة والخائفة إلى وجهات متعددة كلها تتم تحت الخطر واستقبال المجهول، ويشاركهم في لحظة ما حرية القرار الزائف بين الموت والموت في ظل حياة ومنطقة مشتعلة. قد تكون قراءة الرواية في هذه الأيام التي تغير فيها نظام الحكم في بلد لطفي السوري المهجر كغيره من الملايين لها خصوصية مهمة، ودلالة على أن الرواية تناولت قصة الإنسان والمكان، لكنها قصة لا نهاية واضحة لها، بل مفتوحة على كل الاحتمالات!
رابط المقالة:
https://www.addustour.com/articles/1460120
صفاء_الحطاب
Views: 17