إضاءات على كتاب.. (في انتظار الضوء ) للكاتب طارق عوده
بقلم د. شفاء مستريحي
إن المتأمل للنصوص في كتاب (في انتظار الضوء) الصادر حديثا للكاتب طارق عودة يجد مظهرا جليا خرج عن فكرة المألوف و(أشياء أخرى ) كما يسميها، يرد من خلالها إلى طابع متنوع ، وكأنه يبني لإبداعه سبيلا باتجاه عالم مغاير من التأثير، ضمن مؤشرات تواصلية بين القارئ والكاتب، ويبدو أن الكشف عن بداية ونهاية النص مرتبط بخبراتنا لا خبرة الكاتب فحسب، فالواضح أننا لا نتعامل مع رواية أو قصة بل مع مجموعة من التجارب الكلاسيكية والرومانسية والواقعية ظهرت فيها الحاجة إلى التواصل ثم التحليل اثناء والفهم لمعرفة الجماليات واستنباط الخصائص والرسائل.
كثيرا ما نتعامل مع إمكانات لغوية أثناء قراءة النصوص ولكن كتاب ( في انتظار الضوء) اتبع منهجا قائما على إثارة الفكرة من خلال عرض القضايا بصور متعددة ومن زوايا مختلفة، ليجد القارئ نفسه خارجا عن الإطار التقليدي الذي يتبلور حول فكرة واحدة مما يؤدي إلى طرح أسئلة تبدأ بماهية الجنس الأدبي الذي يحتضنه الكتاب، وانتهاء بسؤال ينطلق بمدى تلبية النصوص للمقتضى الفكري والأدبي والنفسي المتعلق بوعي القارئ.
كباقي النصوص النثرية قصيرة كانت أم طويلة فإن الخصائص التي تشكلت في نصوص طارق عودة لم تخرج عن المفارقات والتراجيديا من جهة، والسردية من جهة أخرى، وهذا ما تؤكده القوالب الفنية رغم قصرها ، فقد ورد نص بعنوان ( ثنائي) يقول فيه: ” الذي أزعجه أنهم شطروه بحجة الثنائية” ، وبقدر الخبرات يكون احتواء النص، ومثل ذلك في نص (إشغال) ” أرادت الريح إشغال نفسها، فدخلت بوقا! ” ترى كم من المواقف التي نعيشها تحتاج أن نكون ممتنين للحكمة الإنسانية فيها؟
ولعل من الملاحظ في هذه النصوص ذلك التداخل والتمازج في ماهية الجنس الأدبي، فالصورة عضيدة الكلمات، والمعنى يرصد الدلالات، والمضمون قد يخالف السياق، فالموضوعات تنبثق من التنوع، والدلالات تستدرج من الواقع، والتداخل يؤصل العلاقة بين الفن السينمائي والسرد القصصي أو الومضة أو القصة القصيرة جدا لتشترك كلها في دائرة واحدة تبحث عن الضوء حسب الموقف المعروض، ولا بد من توجيه النظر إلى الجانب الفلسفي الذي يظهر في النصوص، وفي سبيل توضيح التجربة الإنسانية بصورة فعالة ولطيفة، يعمد إلى الدخول من عالم الموجودات إلى عالم الإنسان فيثير القارئ لينصت إلى صوت المعنى، وربما يصدمه بطريقة أكثر تأثيرا من الإخبار الواقعي المباشر، كما في نص (ظن): ” ظن الليل أن سطوته حالكة ودجاه مقيم، فنقض عراه الضياء بخيطه الأبيض، وهو يستمع لصوت الديوك”.وفي طريق البحث عن الضوء نجد المضامين الفكرية التي تؤصل فلسفة المؤلف للكون والحياة الإنسانية على ألسنة البشر أو الحيوان أو سردا عن المجردات، فالنصوص الإبداعية تشكل منطلقا زاخرا بالوعي في التعاطي مع عالم الإنسان، في ضوء المسارات الفكرية العميقة التي تتكشف من خلال التجارب، فنجدها على شكل إشارة، أو قصة أو رأي، او حكمة، أو تحريض خفي يحتاج للتأويل.
يعتمد طارق عوده في كثير من نصوصه على (اللوحة) موظفا إياها كوسيلة ناقلة للفكرة، وتوجيهها إلى الواقع، بتكنيك قائم على العرض المتبوع بالانتظار والترقب الذي لا يصل بالضرورة إلى نتيجة مكتوبة بل إلى رسالة تحملها المدركات النفسية والفكرية، أو التحولات الفلسفية عند القارئ، وكأن النصوص توجه سؤالا: ما المرحلة التي تتبع مرحلة الإدراك؟ …..الثبات أم التحول؟؟؟
ولا يمكن تجاوز ترتيب النصوص في كتاب ( في انتظار الضوء) فهي لم تأت ضمن ترتيب مقنن بل جاءت لتؤكد أن التجربة الإنسانية متداخلة فقد يصاب المرء بالهلع في اللحظة التي يبتسم فيها، وقد تراوده الأفكار في اللحظة التي يريد فيها النوم، وقد يتستر فيها في اللحظة التي يبحث فيها عن الحقيقة، تارة يعود للمضي وتارة يبحث في المستقبل، تارة يخاطب الأحياء وتارة يحاور الجمادات ، تارة يصنع الدهشة وتارة ينتهي بنقطة.
وبالنظر إلى النصوص الواردة -أيضا- لا يغيب عنا ما يكمن فيه من الاختزال، سواء في الصور البصرية أو المفردات، فهو يعيد تشكيل الصور الماثلة أمام الآخرين باختزالها وتجسيدها بصورة موقف أحيانا أو قصة قصيرة جدا أو ومضة عميقة، لتتناسب مع الأبعاد المادية أو العقلية في طريق البحث عن النتيجة الحتمية للتجربة وتوجيهها إلى القارئ ليعيد دمجها وتفكيكها والوصول إلى الأبعاد الرمزية فيها.
يمكن القول: إن الالتفات إلى السيكولوجية الفكرية تدفع بالمتلقي إلى التفسير والإسقاط، وما جاءت هذه النصوص – مهما كان جنسها- إلا طرحا ناجما عن سلسلة من المفاهيم والتجارب، ولكل عمل أدبي هيكله الذي يستند إليه بفكرة أو شعور أو فلسفة أو تشكيل لغوي، لكننا نجد أن الأفكار المنصهرة في النصوص تميل إلى نسيج طبيعي يحاكي الواقع ، وتغنيه الصور التي تتبلور بضرورة إرجاع الأشياء إلى مكوناتها والاستدلال بالمشاهد التي قد تبدو سهلة للوهلة الأولى لكنها تحتاج إلى إعادة ترتيب المعنى ومحاولة فهم الدلالات الضمنية
Views: 69