الحنين إلى التجربة والأمكنة؛ رواية قطن أسود بقلم دعاء صفوري

يذكر الكاتب محمد مجدلاوي في تقديمه لتجربته الروائية أن “قطن أسود” هي روايته الأولى بعد الكثير من القصص التي لم تر النور. مما أثار فضولي للتنقيب خلف غمار التجربة. ولا يخفى على القارئ والباحث والكاتب –بالضرورة- أن الرواية تمثل مخاطر حقيقية، فما بالك بالرواية الأولى. ربما كلمة “مخاطر” ليست الوصف الدقيق لم أريد قوله، لذا سأنقل على لسان كونديرا في فن الرواية؛ “إن روح الرواية هي روح التعقيد. كل رواية تقول للقارئ: إن الأشياء أكثر تعقيداً مما تظن. إنها الحقيقة الأبدية للرواية، لكنها لا تُسمِعُ نفسَها إلا بصعوبة في لغط الأجوبة البسيطة والسريعة التي تسبق السؤال وتستبعده… إن روح الرواية هي روح الاستمرار”.
وعند قراءة العمل نجد أن “الحنين كثيراً ما يمتزج بنبرة حزينة نابعة من وجدان الصوفي” المتأمل بالكون والخلق، كأنه يمثل عصارة روحانية شكلتها الأرض والطبيعة. وللعنوان نصيبه من هذه العصارة التي تجاوز الظاهر: “قطن” من أجل الباطن: “أسود”. يقول: “أشتال الباذنجان تشبه إلى حدٍّ كبيرٍ أشتال القطن، ينظرُ عمران إلى بضعِ شتلاتٍ من القطن تنمو إلى جانب حقل من الباذنجان، ويقارن بينها ” كلاهما تتشابهان في الأوراق العريضة التي تختبئ بينها الثمار، لكنهما تختلفان في الشكل وتتفقان في الجوهر من حيث اللون؛ ثمرة القطن بياضٌ كثيفٌ، معقودٌ بخمس عُقدٍ تتدلى كقمعٍ أبيض بين أوراق النبتة، وللباذنجان ثمرٌ أسودٌ شديد اللمعان في وهج الشمس، كأنه مرآةٌ تعكس شعاع الشمس وترده إلى عينها التي انبثق منها، ولكنّ داخله أشدُّ بياضاً من القطن… الباذنجان شديد السمرة، يشبه وجوه الفلاحين الذين لوحتهم الشمس، فمنحتهم سماراً جميلاً، وغسلت قلوبهم بوهج الضوء الذي وقر في قلوبهم وغسلها من الضغينة، فغدت بيضاء، ورحبة كفضاءٍ فسيحٍ مُجللٍ بالضوء”.لم تبتعد شخصية البطل في الرواية (عمران) عن شخصية المؤلف في سعيه للتدوين إلا أن الأول كان الحنين عنده متمثلاً في الكتابة، والآخر في الرجوع إلى الأرض. وهذا ما عُبِّرَ عنه في أبعاد التجربة الصوفية: “طريق الحب الصوفي من تجربة الفناء إلى تجربة الكتابة” وهو ما انعكس على جو الرواية العام. تبدأ رحلة عمران مفكراً بأسى “كيف يمكنني أن أقوم ببناء بيتٍ بعيد، وأترك هذا المكان الذي ولدت فيه، ثم أتساءل في داخلي، ما ذنب هؤلاء الأطفال أن يسددوا ثمن حنيني للمكان والذكريات؟” وما لبث أن أتم بناء بيته في المدينةحتى تملكه الفرح الممزوج بالألم “مع كل الشقاء الذي كابده ظلت الشونة هي المكان الأحب، والمكان الذي يشعر بالغربة كلما نأى عنه، والمكان الذي يشعل جمرة الحنين في داخله، فلا تنطفئ، إلا إذا عاد تقوده أشواقه إلى مسرح الحوادث والذكريات… كم هو موجعٌ أن تترك كل شيء جميل هناك من أجل أن تسكن هنا، معللاً هجرك للمكان الأليف بقسوة الصيف، متناسياً دفء الشتاء، وبهجة الربيع وكآبة الخريف التي تعيدك لقراءة نفسك، وتُهيّئك لحياةٍ جديدةٍ بعد المطر! يا للإنسانِ ما أجحده!”. يجدر التنبيه إلى أن الحنين بلغ ذروته في موضعين من العمل، ربما بات واضحاً الموضع الأول “باقتراب ساعة الرحيل من قريته التي حفظت كل أسراره، وذكرياته على مدى أربعين عاماً مضت” والموضع الآخر سيأتي تباعاً في الحنين إلى الأمكنة.محطة أخرى في الرواية تحمل “توشيحاً” ينقلنا الكاتبمن خلاله إلى تجربة الحياة في المدينة بعيداً عن الغور الحبيب وخاصة الشونة الشمالية؛ “مهما ابتعدتَ عن المكان الأليف، تظلُّ جذوره في داخلك” وكم تماهى هذا التوشيح بين المؤلف وشخصيات روايته، وكم تماهى مع غاستون باشلار في “جماليات المكان”، وكم تماهى مع أبي تمام في بيته:”كم منزلٍ في الأرض يألفُه الفتى *** وحنينُه أبداً لأوّلِ منزلِ”بعد عشر سنوات مضت ضجراً في المدينة فاض الحنين وتبلورت مفرداته بشتى أجزاء الرواية، “يردّ عمران وهو يحتضن صديقه ويربت على كتفه: الحنين هو ما جاء بي إليك يا صديقي، الحنين لكل شيء جميل هنا، للأصدقاء، للأمكنة، وللكائنات التي تملأها بالحياة”. وقبل أن أورد المواطن الأخرى، أشير –للاستئناس- إلى ما أورده صاحب كتاب “الحنين إلى الوطن في الأدب العربي” عما رواه قدماء العرب عن الهنود والفرس عن تعلقهم في أوطانهم، قالوا: “قالت الحكماء: حنين الرجل إلى وطنه، من علامات الرشد”. ورووا عن حكيمهم بزرجمهر قوله: “من أمارات العاقل، بره بإخوانه، وحنينه إلى أوطانه”.عَودٌ على بَدء “الحنينُ يدقُّ باب ذاكرتي، يقودني إلى حيث يجب أن أكون، يعيدني إلى الأماكن والطرقات التي تألفها روحي؛ حارتنا العتيقة، بيتنا القديم، شجر السرو العالي على حفافِ الوادي، ذلك الشارع المُسيّج بالعنبر وسط بيّارات البرتقال، حيث يشتبك الظلُّ بالظلِ وقت الظهيرة، السواقي التي يخرُّ الماء فيها على جنبات الدروب الضيّقة، وإلى مسارحِ الذكريات كلها. الحنين؛ صديقي الذي أحنُّ إليه يأخذني إلى صورتي النقية ويُعيدني إلى حُلمي المُشتهى هناك بين الحقول”. على الرغم من أن الاغتراب لم يتجلَّ بصورةٍ تقترب من مصطلحات الصوفية ليكتب الباحث حينئذٍ عن ابن عربي وأحوال الاغتراب عند الصوفية الأوائل، إلا أنه مماثل من حيث تحقيق غايته “البحث عن الحقيقة الإلهية خارج حدود الحياة المعتادة، ومجاهدة النفس والتخلق بالأخلاق الإلهية ورصد تجلياتها داخل العالم” فشخصية عمران لم تمارس حياة المدينة بوصفها روتين يومي عابر؛ بل كرس جلّ وقته في تأمل أحوال الناس، ما يظهر على قسمات وجوههم وما يخفى، والحكمة في توزيع أرزاقهم وسعيهم خلفها، ناهيك عن بذور الخير والشر وما نتج عنهما أثناء سير العمل الروائي، ومراقبة الكون وذاك الميل إلى العزلة والتغني بالطبيعة والجبال. ختاماً وبعد رحلة العودة التي شكلت الجزء الأخير من العمل، تعلو الحكمة بأبهى عباراتها وصورها، وتسيطر على الرواية السكينة التي تتلاءم مع الغور المعطاء، والتأمل الذي يتلاءم مع هدوء النفس البشرية وميلها الفطري إلى الأرض. “هنا يقترب الإنسان من حقيقته، حين يلامس تراب الأرض التي أحبْ، والذين ربّتهم الطبيعة أدرى بأسرارها وشجونها، علّمتهم المحبة وغرست فيهم بذور الحنين، يُعيدهم إليها كلما أوغلوا في النأي، يرتجون ظلّ شجرةٍ وخريرَ جدولٍ أو صوت ناي”.
Views: 90