كتاب

في رواية “يوميات مريم”: الريف ملاذ الفتيان نحو الحلم والتحرّر.

بقلم: سماح موسى

كاتبة وقاصّة أردنية

حينما ترى الشمس ممتدّة في السماء، تغرسُ في الأرضِ دفئا خالصًا، تتمعنُروحك المشهد، فتبصر نور الطفل بداخلك، يبثّ في روحك الحب. 

صفاء الحطاب، أديبة تكتب بوعي خالص لحوائج الأطفال واليافعين، فتمدّهمبلغة غير مباشرة، تضفي عليها طابع الصقل والصفاء.

يوميات مريم، آخر ما صدر للأديبة صفاء الحطاب بدعم من وزارة الثقافة الأردنية لعام 2025.

تبتدئ الحكاية بفتاة جميلة من الريف اسمها مريم، يهديها جدّها النجّار الماهر،صندوقا أنيقا من الخشب، وضع فيه مجموعة من الأوراق الملوّنة، إضافة إلى أقلام الرصاص.

كانت تلك الهدية بمثابة شيء ثمين بالنسبة لمريم؛ فهي هدية ستساعدها علىتوثيق تجاربها ومذكراتها التي تحلم بتدوينها منذ فترة طويلة.

الجدّ الذي يشكّل رمز الحكمة والوقار في الرواية، قال لمريم:” إذا قمنا بتدوين مذكراتنا، فإنها تصبح أكثر ثباتا في ذاكرتنا”. 

بدأت الحكاية تُروى  بقالب خطابي على لسان مريم والتي أخذتنا نحو عالمها في قرية سمّتها: السعادة، مدوّنة هذه الذكريات على أوراق ملوّنة، يطرح محتواها للقرّاء، بصيغة تفاعلية مليئة بالمتعة والتشويق. 

إنّ فكرة الحكاية وحدها تجسّد عالما متكاملا من الأفكار المهمة للفتيان، تبتدئ بالجدّ، والذي يعزّز مجموعة من المفاهيم، مثل: الاستماع لكبار السن ومحبّتهم، وتقدير هداياهم ونصحهم.

المذكرات، تصقل شخصية اليافع، وتساعده على ترتيب أفكاره، والتعبير عنها وعمّا يشعر به بحرّية، إضافة إلى أنها ترفع ثقته؛ فهي توثيقٌ لتجربة ذاتيةمبنية على الفن.

لماذا الأوراق ملوّنة؟ 

عالم الفتيان ذلك العالم الذي يراه بعضهم على أنه مظلم وغريب، مرحلة يواجهون فيها أنفسهم بشيء من الخوف والتشتت، تطرح صفاء الحطاب، مذكرات مريم على بطاقات ملوّنة، تعزّز فيها التفاؤل والأمل، وأن هذه المرحلة بما فيها من تجارب وأحداث، مليئة بالألوان والحياة. 

مريم الفتاة ذات القلب النقي، تفرح بالهدايا البسيطة، وتحب عائلتها، والمدرسة والطبيعة إضافة إلى الحيوانات.

تساعد مريم عائلتها في الزراعة، وخلال هذه الرحلة المفعمة بالنّشاط تتعلم مريم الكثير، وتطرح أسئلة: تارة تجيبها بنفسها وتارة من هم أكبر منها عمرا. 

لدى مريم قدرة على ملاحظة الأشياء وتفسيرها بدقة، وربط مجريات الأمور بما تقتضيه نتيجة خالصة نحو الواقع والمنطق، تمتلك حسًّا إنسانيا، ورغبة مطلقة للتغيير، وعلى الرغم من رقّتها، إلا أنّها تحمل قوة داخلية، تدفعها دومالممارسة إنسانيتها بقيادة شجاعة. 

تعزّز صفاء في روايتها أهمية اختيار الأحلام وربطها بالمهارة والرغبة، بصفة الحلم عاملًا مهمًا في تحريك دفّة الفتيان نحو المستقبل. 

تمتلك مريم أخا صغيرا اسمه سعيد، وهنا، يأخذنا الاسم نحو القرية، والتي أطلقت عليها مريم: السعادة.

التكرار هنا ليس صدفة، بل هي عفوية أدبية مقصودة، ترسّخ في أذهان الفتيان حاجتهم الماسّة للسّعادة، والتي تتحقق بالبساطة، والقناعة الداخلية. 

وهذا كلّه متشابك مع المكان: القرية، الطبيعة، المزرعة، واستنشاق هواء طبيعي ذي رائحة عبقة، ينتشل الروح من ثغراتها غير الواعية، إلى حبّ فطريّ نقيّ. 

فمريم تركب الحمار، وتجمع الأزهار وأوراق الشجر والبيض مع أخيها الصغير، وتحضر الماء من البئر في الصباح الباكر. 

ترى في كلّ هذا سعادة لا تحقّق إلا بالتأقلم والإحساس الصادق من الداخل تجاه قيمة العيش بجهد وهدوء.  

تتساءل مريم بكلّ رهافة وتعاطف في منتصف الرواية: “هل الحمار موافق على مساعدتنا في عملنا؟ لماذا نعتمد على الحيوانات دون تفكير في مشاعرها؟”

يجيبها جدها: “إن بقيت الحيوانات بلا عمل، فمن المؤكد أنها لن تكون سعيدة، لأن جميع المخلوقات لديها مهمة يجب أن تؤدّيها”. 

طرحت مثل هذه الحواريات بشكل متكرر بالرواية وبصورة مختلفة في كلّ مرة؛ لتحفّز جانب التأمل لليافع، وتنقله من اللغة المباشرة إلى لغة قابلة للتأويل مدمجة ذلك بعنصر الحكمة. 

“كل ما يقوم به الناس من أعمال نراها سهلة أحيانا، تكون صعبة في الحقيقة، لكن كثرة التدريب على إنجازها تجعلها ممكنة، ومع تكرار عملها قد تصبح متقنة أيضا”  

قيلت هذه الجملة على لسان مريم وهي تجرّب النسيج مع والدتها.

الريف يحفّز اليافع على إنجاز مهامه بيده، ويطرح له بقالب حكائي بعيدا عن النصيحة المباشرة، ترسيخا لمتعة العمل المرتبط بالجهد، ويضفي له ما يحتاجه من تحمل المسؤولية وإثبات الذات، باستثمارهما بصور التعاون والمحبة . 

في نهاية الرواية تحلم مريم وتوثق هذا الحلم، بل وتتعلم منه، ماذا تعلّمت مريم من هذا الحلم؟ ولماذا الكاتبة تجعل البطلة تتعلم من حلم في المنام؟ وما التغيير الذي حصل؟ وما المغزى منه؟ 

يمكن للقارئ طرح هذه التساؤلات والإجابة عليها بعد متابعة مجريات الأحداث. 

رغم حديث الرواية المشبع عن الريف، لم تهمل تفاصيل الواقع، بل تداخلالحديث عن العصرية والمدينة، بمكان أساسيّ تمحورت حوله الأحداث، وكانالقرية.  

إنّ هذا الربط يضفي قالبا واقعيا دقيقا، يتمثل في تحفيز المخيّلة، والقدرة علىالقفز بالشعور من عوالم المدينة الصاخبة، إلى هدوء دافئ بسيط.

لقد جاءت لنا صفاء الحطّاب باليافع ليعلّمنا، ويتنقل بنا بين عالمين، فيأتي من المدينة: محمود ( بالكاميرا) ، وندى التي تغيرت ، والمعلم ، وحتى المذياع. صفاء لا تنتقد عوالم المدينة، لكنّها تطرح الفرق الواضح، والذي ينقلنا بطريقة نشعر من خلالها بأهمية الريف والعمل.

نتعلم من القرية: الحب، التعاون، التفكير خارج الصندوق، السعادة، الدفء، الاجتهاد، تأمل التفاصيل، البساطة والتأقلم؛ فهي مصدر روحانيّ نقيّ،يخلق توازنًا بين صخب العصرية الجامدة والسريعة، وطمأنينة الحالة الآمنةالتي تدفع الشبّان بأمل وشغف نحو المستقبل. 

Views: 52

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى