نص

السويدات والمستريحي تكتبان : أزمة الجمهور

حلا السويدات وشفاء المستريحي

يشكل سؤال التلقي الشعري الثقافي أزمة حقيقية للمتوقع والواقع، فإنّ عدد المقاعد الفارغة يحدد الأفق بينهما، ويطرح طلبات ملحة لإجابات مقنعة وفاعلة تعيد للمشاركة الثقافية هيبتها. لأنّ الشعر المسموعَ طرحًا لأفق تفاعليّ من التجربة الشعريّة المعرفيّة تعتمد مباشرةً على طرفين بنّائين للمعنى والدلالة والبعد الجماليّ؛ لأن الأماكن الثقافيّة تتحدد بوظائف تتجاوز مسألة التلقي الفرديّ للنص الأدبي لبناء أفق جمالي جماعي يساعد في بناء تجربة كليّة، فعلينا بدايةً أن نعي أهميّة أن يكون هناك مكان ثقافيّ ومهمّته المتمثلة في إحقاق وجود الشاعر كذات شاعرة مفكرة صاحبة طرح تستطيع أن تتمثل المقولة الشعريّة والأدبيّة تمثلًا تفاعليًا وتشاركيًا، والذي لن يتحقق بطبيعة الحال إلا من خلال ملء لعناصر هذه الأمكنة، كمؤسسة تنظيميّة تبني لنفسها منهجًا وأسئلة معرفيّة تنظيميّة، ولمشاركين يعرضون محتواهم الشعريّ كتابةً وإلقاءً، ولجمهور ناقد ومتذوق ومشارك في بناء النصّ الدلاليّ، يتخذ دورًا تقييميًا تقويميًا.

تمتلئ الأردنّ بمنصات أدبيّة عديدة تكون معروفةً عند الكتاب، خاصةً وعامةً، يقوم عليها أشخاص فرادى، أو يقوم عليها مجموعةٌ من المنظمين، ويكون المشاركون غالبًا هم جمهور بعضهم بعضًا، وغالبًا ما تربطهم علاقة شخصيّة، فيتفاوت حضورهم من أمسية لأخرى، تجعل الشاعر يقف لحظةً ليفكّر، أين تكمن المشكلة؟ هل ينبني عنصر هام من عناصر الأمسية الثقافيّة على المجاملة المحضة والمعرفة الشخصيّة؟ أم هل يغيب الاهتمام بالشعر كظاهرة عامة يجب قبولها والتعامل مع واقعيتها؟

نسأل الآن عن دور المؤسسة المنظمة للأمسية، التي ترى ضمنًا أن الحضور يعتمد على شهرة الشاعر وقبوله عند غيره من المهتمين، فهي لا تستقطب الجمهور القارئ، ولا تتيح له دورَ فعاليةٍ سوى الاستماع، ولا تسعى إلى بناء مجتمع تلقّي يعتمد على أهمية التلقي نفسها، من خلال تنظيم ورشات ثقافية محضة تطرح أسئلة معرفية نقدية وأدبية تحتاج إلى النقاش، فيكون استدعاء الشاعر أو الأديب تاليًا لها ليس سابقًا، وبذلك يتعدى دورها مجرد التنظيم لملتقى أدبي تفاعلي، إلى دور خاص أكثر يكون بناءً فعّالا لعناصرها الهامة من خلال توجيه هذه العناصر إلى دورها ومساعدتها في ذلك، ونحن نرى بذلك أهميّة دور المؤسسة في تشكيل الوعي وتوجيه الكتاب والجمهور إلى حالة شعريّة معاصرة تحتاج إلى نقاش وتطوير وإثراء.

ويتحدد الجمهور أمام صفتين أساسيتين، وهما: الكم والنوع، فنحتار بتحديد مجال الأهميّة، فالكم هام جدًا في توسعة المشهد لكن فيه تغيب المعياريّة وتحتاج إلى جهد بناء معرفة لازمة لإنجاح عملية التلقي، ويكون الاعتماد على النوع، من ناحية التفاؤل بالحوار التعقيبي على الطرح الشعريّ، الذي سيأخذ مجالًا تحليليًا تقييميًا، وتقويميًا أحيانًا، لكنّه سيكون محبطًا إذا ما كان قليلًا، وإذا ما ظلت المقاعد شبه فارغة، لا يرتادها إلا الأصدقاء والعائلة وبعض المهتمين.

إنّ قياسَ فاعليّة المنصات الثقافية مرهون بقدرتها على تشكيل وبناء الوعي المتكامل حول أهمية الموضوعات المطروحة، على اعتبار أنّ هذه المنصات أدوات للنشر، ووسائل للإعلام، فهي قادرة على دفع الدّفة من أجل استقطاب السواد الأكبر من الجمهور القارئ والمثقف بهدف تنمية القبول حول المطروح سواء كان شائعا أو غير ذلك.

        السؤال الذي يطرح نفسه في ضوء الواقع العام للأنشطة الثقافية أو الأمسيات الأدبية، حول مستقبل الترويج الإبداعيمع عدم وجود الجمهور على أرض الواقع، ومستقبل الأعمال الأدبية التي تستدعي وجود جمهور داعم ضمن الأمسيات الأدبية والنقدية، ما الذي يحفز على زيادة نسبة الحضور وارتياد دور الثقافة لدعم المنجزات الأدبية؟

رغم التّرويج الذي تسعى إليه دور الثقافة في إغناء الفعاليّة وحشد أكبر عدد من الحضور إلا أنّ الأمر غالبا يبوء بالفشل، ومن هنا كان لا بدّ من إيجاد طريقة لتنظيم الموضوعات أو القضايا المطروحة بصفة خاصّة حتى يزداد التّفاعل، والمشاركة في السّاحة الثّقافية، والخطوة الأولى لذلك هي الترويج، لأن الإبداع حتما يحتاج إلى ترويج حتى يبرز وينفذ إلى بقاع شتّى، وتحفيز المجتمع للمسارعة في الحضور من خلال اختيار عريف الحفل القادر على إحداث الصّدى، وإقناع الجمهور بترويج الفعاليّة، وهذا يتطلّب خبرة وحنكة وأسلوبا، والقيام على إعداد مثل هذه المبادرات الثقافية والأمسيات على أكمل وجه، ليس بهدف تفعيل نشاط فحسبن بل بهدف النشر الإبداعي، والمساهمة في خدمة الساحة الثقافية بشكل لافت ومؤثّر، وأن تكون الدعوات، على صعيد عام، وخاص باختيار النخبة من المثقفين القادرين على إبراز النشاط القائم، وإيجاد المداخلات الداعمة للأدب المعروض، وهذا يتطلّب التخصصية من قبل نقاد وشعراء وكتّاب على مستوى عالٍ يؤهلهم لذلك.

رغم أن كثيرا من الأدباء – في الوقت الحالي- وتزامنا مع التطور التكنولوجي الذي يشهده العصر، عصر السرعة، ينشرون الإبداععبر مواقع التواصل الاجتماعي الإلكترونية ليجدوا الكثير من التعليقات الإيجابية، والصدى المقبول –غالبا- إلا أن فتورا يصيب العام من عدم وجود حضور مُرض على أرض المنصات الحية، مما يزيد من المسؤولية.

يتجلى دور مثل هذه المؤسسات الثقافية في ثلاث محاور رئيسة، أولها التخطيط، وثانيها التحفيز، وثالثها التنفيذ، أما الأول فهو يدور ضمن وضع خطة شاملة مسؤولة فاعلة متنوعة؛ لاستقطاب العدد الأكبر من المثقفين، باختيار الموضوع، وتشكيل اللجان القادرة على إبراز الجدوى الثقافية من نشر الأدب، ورصد الموضوعات المقبولة مسبقا من قبل الجمهور فهذا أدعى للحضور وتحقيق الفاعلية من الأنشطة الثقافية.

        أما التحفيز فهو يقوم على فكرة الجذب والاستقطاب لتفعيل المشهد الثقافي، أي أنه ضرب من التسويق، حتى إن كان المطروح بعيدا – نوعا ما – عن الذوق العام، وهذا يكون بالتأثير على الأيديولوجيات من خلال البرامج الحوارية وتعزيز أهمية القضايا بتزويد المتلقي بالمعلومة المنتجة للاستطلاع، وبث العصف الذهني النشط الذي يؤازر العاطفة لاستجلاب المزيد من الحضور، فتحفيز التساؤلات المجتمعية دافع لسيرهم نحو المصدر أو باتجاه الأنشطة الثقافيةعبر خيوط الجواب.

ولا يضير استضافةضيف شرف حسب الفعاليّة، وإتاحة الفرصةلإبداء الرأي الصريح من خلال صندوق اقتراحات –مثلًا-.وضرورة تحديد الوقت الذي يناسب الجميع ممن لا يستطيعون حضور الفعاليات بسبب الوقت المتأخر لها، وقد نجد اقتراحا جيدا ومشجعا للكثير من الناس يدفعهم للحضور بمثابة مكافأة، كأن يسجل عدد الحضور وأسماء من يتكرر حضوره بنسبة معينة ليحظى بحضور ورشة مجانية تنظمها دور الثقافة، هذه بعض الاقتراحات التي قد تثير دافعية الكثير من فئة الشباب للحضور والمشاركة المستمرة.

        كما يجدر بالمؤسسات الثقافية التعرف إلى الدور الذي تحققه المسارات المطروحة على الفئة المستهدفة، ومعرفة الوسائل التي تحقق التفاعل والمشاركة والممارسة الإبداعية والأدبية لإيجاد النتيجة المقبولة.

        وفي مرحلة التنفيذ يلزم النشر الثقافي والترويج اعتمادا على التفكير والخبرة، وتقديم الموضوع في سياق الرؤية التي يتطلع إليها المسار الثقافي، والقدرة على المتابعة من أجل تجاوز الفتور الثقافي من قبل الجمهور في الأمسيات الحية، وتحقيق التفاعل المكاني والزماني بما يتلاءم معظروف الجمهور والمجتمع، مما يعاصر معدل الإبداع لتحقيق نسبة طردية مع المنتج الأدبي والإبداعي.

ولا شك أن المرء بطبيعته تشده الأخبار المرتبطة بواقعه، وهذا يجعله منسجما مع القضايا الفاصلةحول الوطن والمجتمع، وانطلاقا من هنا فإن المنصات الثقافية قادرة على إيجاد الجذب والإقناع من خلال الطرح، لزيادة كثافة الجمهور في مدار القضايا المصيرية المنسجمة معه سواء طرحت بشكل مباشر أو غير مباشر، وكل هذا يتطلب الخبرة من قبل القائمين على هذه المهام.

        إذا أردنا تعزيز مستقبل الترويج الإبداعي بتجاوز أزمة الجمهور وحلها، فلا بد من الاطلاع عبر شرفة الواقعومستقبل الأدب، وميول الجمهور، ورصد النتاجات التي تتصور ردة فعل الجمهور – مسبقا- باستخدام الاستفتاء أو الاستمارات التي تسعى لاستشارة الآخر لتقريب الميول والاهتمامات والأنشطة، وبناء جسر عبور بين الجمهور الخاص والعام وبين المنصات الثقافية بوعي وتجديد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى