تحولات التمثيل الثقافي في الخطاب السردي
ليث سعيد الرواجفة
يجمع بين التمثيل الثقافي والسرد علاقة وثيقة؛ فالسرد هو خطاب، وتنبغي الإشارة إلى أن الخطاب السردي ليس مُنحصِرًا في الأعمال الأدبية والإبداعية بشقيها الشعرية والنثرية فقط؛ وإنّما يتجاوز جميع أشكال توظيف وتأطير اللغة الاستعارية الجمالية إلى خطاب سردي ثقافي قد يصدر عن مؤسسات الدولة الرسمية، والجهات الإعلامية، والفئات الشعبية ضمن الحياة اليومية، إلى جانب الخطابات السردية الكامنة في الموازنات الذهنية (العرفانية) بين المرويات الثقافية القديمة المتوارثة، والموقف البراغماتي (الذرائعي) الآني منها، مما يفرض نزاعًا خطابيًا بين الظاهر والمُضمر؛ أي بين المسموح بإظهاره، والواجب إخفائه.
ويمكن أن أستعير في هذا المقام رؤية الدكتور عبد الله إبراهيم للسرد العربي على أنه إبداع استطاع أن يقدم صورة تمثيلية عن الذات وما مرَّت (وتمر) به من صراعات وتناقضات، فالسارد العربي ركنًا معرفيًا من أركان الثقافة العربية، ويمكن النظر إليه بوصفه مظهرًا إبداعيًا تمثيليًا استجاب (ويستجيب) لمكونات ثقافته، فعملية التمثيل هي الكيفية التي تقوم بها النصوص في إعادة إنتاج المرجعيات وفق أنساق متصلة بشروط النوع الخطابي، ومقتضيات الخصائص النصية المُستخدمة، وليس امتثالاً لحقيقة المرجع، فالمرجع مجموعة أنساق ثقافية محمَّلة بالمعاني الاجتماعية والنفسية والفكرية في عصر ما، وليست بالضرورة أن تكون هذه الأنساق ظاهرة ومباشرة وصادقة؛ فهناك مستويات متعددة للتعبير السردي عن تلك الأنساق مثل التعبير المباشر، والتعبير غير المباشر (المُفارِق)، والذي يتحكم بمستوى التعبير –برأيي- مصدر الخطاب السردي الذي قد يكون منبثقًا عن تمركز معين، أو عن هامشية ما.
ونتيجة النزاع بين المرجعيات الثقافية الراسخة، والحداثة وما بعدها؛ ظهرت جملة تحولات للتمثيل الثقافي في الخطاب السردي العربي ضمن الألفية الثالثة، ومن أبرزها تلك التي وظفت في خطاباتها الظواهر والقضايا الإنسانية المعاصرة المُندرجة ضمن حقل كتابة السايبورغ (cyborg)، وهذه الكتابة وفقًا لرأي هاراواي (Haraway) معنية بالتهجين وعدم التعيين، وتفرض موقف ضرورة الانغماس والتواطؤ في العلوم العالمية المتقدمة، وهذا يعني أن الكتابة تصدر من منظور العالم الأول؛ أي من وجهة نظر الرأسمالية المتأخرة. ووفقًا لخطاب السايبورغ السردي نحن في العالم العربي أمام قوة وضعف في آن معًا؛ قوة المركزية الغربية، والكامنة في الامتياز النسبي الذي توجهه هذه الكتابة لأولئك الذين لديهم إمكانية الوصول إلى التكنولوجيات الجديدة، وضعف من حيث إنه -أي الخطاب- لا يحمل بسهولة صوت أولئك الذين لا تتوفر لهم هذه الفرص (الهوامش/ التوابع).
وتمتاز رؤية الخطاب السردي في الألفية الثالثة للأحداث؛ حيث أصبحت الأحداث قائمة على مبدأ الاحتمال وليس اليقين، وتداخلت العلاقات بين الكيانات بما تقتضيه المرجعية الثقافية لكل الأطراف المتعارضة والمتآلفة، وهذه المرجعية تستدعي مصلحة الذات (الأنا) العليا، في مواجهة (الآخر) المختلف، مهما كان شكل الاختلاف معه، فالأحداث مليئة بالمفاجآت والمفارقات، وكسر أفق التوقع، والصدمة؛ فعدو الأمس صديق اليوم، والعكس، ولنا في جائحة كورنا تمثيل حيّ وحاضر على سرعة تغير الأحداث، وعدم القطع بأي حكم أو خطاب سردي.
ومن أبرز تحولات التمثيل الثقافي في الخطاب السردي الإيهام بحقيقة العوالم المتخيلة على أنها نظيرة للعوالم الحقيقية، ولكنها تقوم بتمزيقها وإعادة تركيبها بما يوافق الدافع الأيدولوجي، والمقصدية الخطابية للعمل السردي بأكمله؛ فالرواية مثلاً كانت في بداياتها تاريخية/ تسجيلية تسعى إلى تثبيت أركان العوالم المتخيلة والمستمدة من العوالم الحقيقية، أي أنها تحيل إليها، وهذا الشيء انعكس على بنائها الفني، وأسلوبها السردي المهيمن عليه صوت الراوي العليم، إلا أنها –أي الرواية- في الألفية الثالثة باتت تخلق عوالم تعرّي وتفكك وتمزق الواقع وتثور عليه، وتتجاوزه، فنجد روايات الخيال العلمي، وبعض الروايات التي وظفت الفانتازيا أو الواقعية السحرية، ونجد في بعض الروايات غرائبية وعجائبية، وغيرها من الأساليب السردية والخطابية الثائرة على سلطة الراوي الوحيد (البولوفونية).
وبما أن الحديث جاء على ذكر الرواية بوصفها الفن السردي الأبرز في الألفية الثالثة، نجد أنها مليئة بصور الصراع، وهذا الصراع مستمد من طبيعة حياة الإنسان العربي في هذه الفترة الحرجة، والمسكونة بكم لا حصر له من الاختلافات؛ فهناك صراعات دولية، وأيديولوجية، ودينية، وسياسية، وإثنية، وعرقية، مما أوجد (ذاتًا) بحاجة لمن يدافع عنها، و(آخر) يجب على الذات مجابهته والرد عليه. وعندما يرتبط السرد بالتمركز يجيد جميع الأدوار المنوطة إليه، فيمثل مختلف الأنساق الثقافية التي تنتمي إليها الذات أيما تمثيل، ويقدّم خطابات ترفع الذات في أسمى المراتب، وتنزل الآخر إلى أحط المراتب والصفات، وليس بالضرورة أن تكون هذه العملية مباشرة، فقد تكون مجازية، إما بدافع السخرية، أو بدافع أدبية النص واستعارية تراكيبه، ولنا بروايات الهولوكوست بشتى أشكالها، وبعض الروايات العربية المُطبعة مع الكيان الصهيوني أمثلة حية على تلك المركزية الثقافية للخطاب السردي المراوغ.
وأرى أن غياب التفكير النقدي الأبستمولوجي في الساحة الثقافية العربية تسبب في تعامل بعض النقاد مع المرويات السردية الماثلة أمامهم فقط، والخضوع لحكاية هذه المرويات المتخيلة دون إخضاعها للتفكيك والتفكير والاستنطاق، والحفر عميقًا في خبايا الأنساق المضمرة، والبحث عن المعاني الكامنة وراء ظلال الألفاظ، والحبك، والسرد، والبناء، والأساليب. كما أن غياب التفكير النقدي قد انعكس على المبدعين أنفسهم؛ مما أوجد تبعية للسردية الغربية المتعالية، والتي نجحت إلى حد ما في جعل الغرب مركزًا لكل شيء في الحياة، وكل مختلف عنه هو هامش وتابع، مما دفع الأخير إلى محاولة الاندماج في المركز ليتخلص من جميع صور الضعف والخضوع. وهو من أبرز تحولات التمثيل الثقافي في الخطاب السردي العربي ضمن الألفية الثالثة.
Views: 98
Hi, this is a comment.
To get started with moderating, editing, and deleting comments, please visit the Comments screen in the dashboard.