د. بيان عمرو : ثلاثُ “عَتبات” لا تختصرُ الحكاية
من قِصة العراق بعد الاحتلال في أغلفة ثلاث روايات
عجَزت تسعةَ عشر عامًا في العراق عقب الاحتلال، عن أن تغلق ملفّ الخراب، أو تكتب صفحته الأخيرة، بل إنّ بلد النفط والخيرات يزداد اليوم فقرًا وجوعًا وتأخرًا، وتنشب فيه قوى خارجية أظفارها متحكّمة في خيراته، ومصادرةً حقه السيادي في تقرير مصيره، تتصرَّف في موارده، وتمنع عن أراضيه الماء، لتنهي فيه كل أسباب الحياة وسبلها.
أمام هذا المشهد البائس، يعود التاريخ بمن شهدوا لحظة الاحتلال لتتداعى إلى الذاكرة لوحات غرائبية، تجتاز ممكنات الواقع والتخيل، إذ يؤكد من شهد هذه اللحظة أنها كانت سورياليّة احتشدت فيها الصور، واضطربت الإحساسات.
هذا ما كان من شأن العربيّ الذي جلس خلف الشاشات متابعًا بصمتِ المترقّب المشهد العجائبيّ الذي قادته الولايات المتحدة الأمريكيّة في مشروعها لشرق أوسط جديد، فشقّت الصفّ العربي، وأثارت أسباب الفتنة.
الحقيقة، أن المشهد السياسي عميق، وزاخر بالتفاصيل التي لا مكان في هذا المقال لاحتوائها، غير أنّ الأدب يقول كلمته من موقعه الخاصّ؛ إذ لا ننكر وجود علاقة بين التحول التاريخي والسياسيّ والإنساني، والأدب عمومًا؛ ذلك أن الأدب يتضافر مع حركة الواقع، وهو قادر على كشف خفاياه، وفهم الحمولات المرجعيّة، وجماليات البناء والتشكل فيه.
ومن هذا الباب، شهدت الرواية العربية في العراق تضخّمًا غير مسبوق في أعدادها، وانبرى الكتّاب لتصدير هذا المشهد إلى العالم، وعُدّت لحظة الاحتلال نقطة تحوّل واضحة، سجّلت حضورها فيما كتب عن العراق بعد عام 2003.
ولم تتوقّف هذه الرؤية عند الرواية، بل طالت أشكال التعبير كلّها، منها ما رافق الرواية، وشكّل بحمولته الدلالية والفنيّة عتبة ومناصًّا، حملت عن الرواية كتفًا معضِّدةً وشارحة.
وقد برزت من هذه المناصات لوحة الغلاف بوصفها نصًّا أفقيًّا موازيًا، هي أوّل ما يواجه القارئ، ويدعوه لتلك القراءة (للوحة الغلاف)، التي لا تنتهي ربما حتى بعد انتهاء النصّ.
ومن هذه الأغلفة غلاف رواية ” أهل النخيل” الصادرة عن دار الساقي (2015)، للكاتب جنان جاسم حلاوي. لوحة الغلاف من تصميم الفنّان سومر كوكبي. وبينَ صفحةِ الغلافِ والعنوان في الرواية يبدو أنّ حضورَ مُفردَة “النخيل “، وشكلَ هذا الحضورِ في الرواية هو الذي يستدعي الوقفةَ، كما أنّه يشكّلُ مفاصلَ سرديّةً داخلَ النصّ الروائيّ، حينَ يأخذُ أبعادًا جديدةً في البناء ” ضجّ النخيلُ برصاص الشرطة، وشمل البستان صخب لم يشهد مثله منذ أن خلق الربّ النخل في هذه البقاع ” ([1]).
- دلالةُ الغلافِ يكمّلها النصّ حين يدورُ دورةً كاملةً ومُغلقةً مِن لحظةِ الانفتاحِ حتّى الخاتمة
وربّما يُشكّلُ الغلافُ المِفتاحَ الدلاليّ للنصّ في رواية ” أهل النخيل “؛ فحينَ يُسيطرُ البياضُ على الثلثِ العلويّ الذي يتموضَعُ فيهِ العُنوان متوسطًا إلى الأعلى، ويأتي اسمُ الروائيّ جنان جاسم حلاوي أسفلَ منه إلى جهةِ اليمين، فإنّ لوحةً تجريديّة تملأُ الفضاءَ الطباعيّ، والتشكيلَ الخارجيّ للغلاف، ولا يعوزُ القارئَ عميق نظرٍ لكي يُدركَ أنّ ما أمامَه هي لوحة تجريديّة تتطلّبُ المُقاربة بينها وبينَ النصّ، ولذا فإنّ الغلافَ يبدو مُربكًا للقراءةِ، نظرًا إلى التضادّ المُرهِق بينَ بياضِ الثلثِ، واحتشادِ الثلثيْن المتبقّيَيْن بالألوانِ والأشكالِ والمُوحيات يفصلُها شريطٌ بنفسجيّ رقيق.
ودلالةُ الغلافِ يكمّلها النصّ، حين يدورُ دورةً كاملةً ومُغلقةً مِن لحظةِ الانفتاحِ حتّى الخاتمة، يدلّلُ على ذلكَ بالعَنوَنتيْن الفرعيّتيْن للفصلِ الأول والأخير بالإشارة نفسها ” في أعقاب ما جرى”؛ فالحريقُ مُشتعلٌ، وهناكَ أجسادٌ تديرُ ظهرَها له وهو يقتربُ منها، بدلالة انعكاسِ النار في العتمةِ على الأجساد، ويمكنُ القولُ بأنّها أجسامٌ غيرُ مُتعيّنة تصلحُ لأنْ تكونَ نخيلًا أو بشرًا يرفعونَ سواعِدَهم وينظرونَ باتجاهِ ضفّةٍ مقابلة، هذهِ الضفّة المقابلة تزخرُ بالألوان؛ الأصفر والأخضر والورديّ يفصلُها نهر؛ وذلك أنّ للأشكال الملوّنة انعكاسًا على الشريطِ الفاصلِ الذي يبدو أنّه صفحةُ ماء، وتبدو الدلالة في اللوحة التي رسمتها ” أم يوسف” لأهلِ النخيل في الرواية، وهمُ الشخصيّاتُ التي اضطلعَ الساردُ بمهمّةِ تعريفها.
وينتمي الغلافُ في رواية ” الشماعيّة” الصادرة عن دار المدى (2007)، للكاتب العراقي الراحل عبدالستار ناصر، في علاماتِهِ إلى نمط التشكيل التجريدي، وتجتمِعُ في لوحةِ الغلافِ الأماميّة للفنان خالد سليمان ألوانٌ لا تُحقق أي قدرٍ مِن التجانس، بحيث نرى الأحمر والأصفر والأبيض والأخضر والأسود. وتتسعُ رقعة اللون الباذنجانيّ الفاتح في وسط الغلافِ بيْن شريطيْن من اللونِ الأحمر، تظهر فيها اللوحة لرجلٍ ينظُر بارتيابٍ إلى شيءٍ لا تظهرهُ حدودها – أيْ اللوحة -، وهو يضعُ يدًا خلفه، ويتركُ الأخرى مُعلــّــقة في الفراغِ وقد انتهتْ من إلقاءِ نظارة وعُكاز في الهواء، يظهرُ اسمُ المؤلّف في الشريطِ الأحمرِ العُلويّ بخطٍ كبير ومكتوبٍ بالأبيض، ويظهرُ عنوان الرواية في الشريط السفليّ الأحمر بلونٍ أصفر.
يمكنُ القولُ إنّ الرجلَ في لوحةِ الغلافِ يُمثّلُ الشخصيّة الرئيسيّة؛ أمين هاشم بيطار، ودلالةُ النظرةِ المُرتابة والنظّارة والعكاز الملقاة في الفراغ ربّما تعني أنّ حواسَه قد تخلّت عنه، أو باتَت تخونُه فما عادَ يرى جيّدًا أو يَدُلّ طريقه، إنّ الغلاف يؤسّس لفكرةِ الجنونِ التي يكمّلها النصّ.
وتثيرُ روايةُ ” إنه يحلُم، أو يلعب، أو يموت” لأحمد سعداوي(2008) (منشورات الجمل 2015) حفيظةَ قارئها حينَ تجعلُ مِن العُنوان – بِدءًا – إلماحة إلى التشكّكِ والحيرةِ التي تنتظرُه داخلَ المتنِ الروائيّ بـ ” أو” التشكيك؛ فالعنوانُ في هذه الرواية فخٌ حقيقيّ.
يختارُ الروائيّ صورة الغلافِ ليَديْ امرأةٍ عجوز تعقِدُ أصابعها بيدين موشّمتيْن على خلفيّة سوداء(صورة الغلاف للفنان صفاء علوان)، وهذه المرأة هي ” بنيّة” الأمّ التي انتظرَ نديم موتها للحاق بحميد. لقد كانت ” بنيّة” صورة لكلّ ما هو متصلٌ بالعراق؛ فالوضعُ معقّد هناك كما يشير إليه انعقاد الأصابع المجعّدة.
ظهورُ ” بنيّة ” هزّ حميد أو هاميت، وأعادَهُ إلى حميد، وإلى استرجاعِ الذكريات في العراق دفعة واحدة، كأنّ سعداوي يرى أنّ محاولاتِ الهروب كلّها لن تُجدي بالتخلّص مِن هذه الذاكرة المشوّهة.
وهنا تعود ذاكرة العراق والتراب والنسوة، ويشاهد الشوارع ووجوه الأصحاب، ونديم الذي ظلّ يذكره بوعده له، فلا يفلحُ حينها في تجاوزِ حياته السابقة، ويبدو كما لو أنّ الصوتَ يُحتضر حتى يبدو مسودًا ومتهالكًا في المرآة مِن ثقلِ الذاكرةِ التي سقطت عليه بمشاهدةِ أمّه العجوز المصابة على شاشةِ الفوكس نيوز، كلّ شيءٍ انتهى تمامًا بمشاهدةِ المرأةِ ذاتِ الوشوم؛ فتنثالُ ذكرياتُه متسارعةً بفعلِ هذا المشهد، ويرى أباهُ يذبح طيورَه ال25 في العراق ([2])، هذه التذكارات التي تعودُ لتنطبعَ في ذاكرةِ حميد مُجددًا تأخذُ شكلَ الصورِ المتحركة، وبهذا يجلبُ انعقاد الأصابعِ كلّ ما تقدّم، ويختزلُ دلالة النصّ بتأكيد حالة الخرابِ واستمرارها.
ثلاثة أغلفة، تقول الكثير، لكنها لا تختصر الحكاية!
[1] حلاوي، جنان جاسم (2015)، أهل النخيل، (ط1)، بيروت، لبنان : دار الساقي، ص 151.
[2] توضيح : ربما تكون هذه ال25 هي إشارة إلى السنوات التي تسرّبت من حياة هذه الشخصيّة بدءًا من عام 1980 (بداية الحرب الإيرانيّة العراقيّة) انتهاءً بما تلا الاحتلال الأمريكي للعراق حتى الانتهاء من كتابة الرواية في 2005، وهي في مجموعها خمسٌ وعشرون سنة.
Views: 68
Hi, this is a comment.
To get started with moderating, editing, and deleting comments, please visit the Comments screen in the dashboard.