الحرية الشخصية بين المساحة الآمنة والتيه الاجتماعي!

صفاء الحطاب
“الحرية الشخصية” ليست شعارًا يُرفع في لحظة انفعال، ولا بطاقة عبور لفعل ما نشاء دون قيد أو وعي؛ بل هي أحد أعظم الحقوق الإنسانية، لكنها في ذات الوقت من أكثرها عرضة لسوء الفهم وسوء الممارسة؛
هي حقٌّ فردي، نعم، لكنها مسؤولية جماعية أيضًا، تمسّ نسيج المجتمع وأمانه وتطوره؛ وبين الحرية الآمنة، التي تُبنى على الوعي والاحترام، والحرية المنفلتة، التي تقود إلى الفوضى والتصادم، تبرز الحاجة المُلحّة لإعادة تأطير مفهوم “الحرية الشخصية” في ضمير الفرد والمجتمع؛
الحرية الشخصية هي المساحة التي يستطيع فيها الإنسان أن يختار أسلوب حياته، ويعبّر عن ذاته، ويتخذ قراراته الخاصة دون إكراه أو وصاية. وهي تمتد لتشمل الرأي، اللباس، السلوك، المعتقد، العلاقات، وحتى الطموحات. لكنها لا تعني إطلاق العنان للفرد ليعبث دون وعي أو مراعاة لوجود الآخرين.
الحرية الآمنة تبدأ حيث يحترم الإنسان أثر أفعاله على محيطه، وتُمارس بانسجام مع القيم والحقوق العامة والقوانين والآداب؛ أما حين تُمارس الحرية دون وعي، فإنها تنقلب على صاحبها وعلى المجتمع، فتولد التصادم والفوضى والفراغ القيمي؛
هناك فرق كبير وجوهري بين الحرية الآمنة والحرية المنفلتة؛
الحرية الآمنة هي حرية مبنية على معرفة الذات وحدودها، وعلى احترام الآخرين واختلافهم. هي حرية تنمو بالوعي وتثمر بالتوازن؛
في المقابل، الحرية المنفلتة تُمارس كردّ فعل، أو بدافع أناني، وتقوم على تجاهل الآخر، وربما على تحدّي النظام الاجتماعي نفسه؛ هي حرية بلا مسؤولية، تقود إلى الفوضى بدل الاستقرار، وتشوّه مفهوم الحرية، فتصير عبئًا على المجتمع بدل أن تكون قوة لتحريره وتقدّمه؛
من الأمثلة المؤلمة على سوء فهم الحرية، لجوء بعض الشباب إلى شرب الخمور أو تعاطي الممنوعات، ظنًّا منهم أن ذلك تحررا أو تمردا على الواقع القاسي؛ العديد من هؤلاء لم يجدوا أدوات حقيقية لمواجهة الألم أو الإحباط، ولم يُمنحوا تربية على الوعي الذاتي أو دعمًا نفسيًا صحيًا، فلجأوا إلى أساليب تدمير الذات كمهرب.
الممنوعات في هذا السياق ليست مجرد مادة محرّمة، بل رمز للهروب من المسؤولية، من الشعور بالفراغ، من غياب المعنى؛ وهذه ليست حرية، بل ضياع مغلف بثياب “الاختيار الشخصي”؛ والنتيجة؛ أرواح فارغة، علاقات مكسورة، مجتمعات ترتجف من الداخل!
هنا يظهر الدور المفصلي للمجتمع. فليس من واجبه أن يقمع الحريات، بل أن يوجّه الأفراد إلى كيفية ممارستها بشكل صحي ومسؤول؛ عبر الأسرة، التعليم، الثقافة، الإعلام، والقوانين العادلة،
يمكن للمجتمع أن يُنشئ أفرادًا أحرارًا لا متفلتين؛ بتوعيتهم بالحقوق والحريات على أن تُرافقها توعية بالواجبات، وبأن الحرية لا تنفصل عن الاحترام، ولا عن الانتماء.
المجتمع الذي يربّي على الحرية المسؤولة، هو مجتمع يربّي على الحوار، وعلى تقبّل التعددية، وعلى إدارة الخلاف، وعلى امتلاك أدوات ومهارات حياتية وفكرية وإنتاجية؛ بدل التحريض أو الانعزال أو الانفلات؛
كثير من الأفراد في مجتمعات اليوم يعانون من مشاعر التيه، من غياب الإحساس بالأمان، ومن عدم القدرة على تحديد حدود حرياتهم. ويرجع ذلك إلى عدة أسباب منها؛ غياب التربية على الوعي الذاتي، مما يجعل الفرد يجهل احتياجاته النفسية والروحية.
نقص التوجيه المجتمعي، فلا يجد الشاب أو الشابة نموذجًا متوازنًا للحرية؛ تضارب الرسائل الثقافية والإعلامية، بين خطاب يُمجّد الانفلات، وآخر يُغرق في التحريم والكبت؛
ضعف الحوار داخل الأسرة والمدرسة، مما يجعل الفرد يعيش حرية مشوّشة، غير مفهومة، ولا موجهة.
صعوبات اقتصادية محلية وعالمية تعيق الإنتاجية الفردية وتجعلها غير مساوية للجهد المبذول!
وهذا يؤدي إلى أن يعيش الإنسان في دوامة من الخيارات دون بوصلة، فيتحول إلى كائن مشتّت، لا يعرف كيف يطلب الراحة، أو يعالج قلقه، أو يختار طريقه بثقة؛
حين تُترك الحرية بلا ضابط، يصبح المجتمع مساحة تصادم لا تعايش؛ تتفكك العلاقات، يُستهان بالقيم، يُهمّش القانون، وتفقد الحياة معانيها المشتركة؛
فينشأ جيلٌ بلا مرجعية، بلا رابط، بلا شعور بالانتماء. وتتسع الفجوات بين الناس، ويحل الصراع محل التعاون؛
ختاما؛
الحرية ليست ساحة عبث، ولا قيدًا جديدًا، بل هي رحلة نحو الذات، وإسهام في رفعة المجتمع؛ بل هي توازن بين “أنا” و”نحن”، بين الفردي والجماعي، بين الحق والواجب؛
وحين يعي كل فرد حدود حريته، ويُمارسها بوعي، ويتلقى من مجتمعه الدعم والتوجيه لا القمع، فإننا نكون قد وضعنا حجر الأساس لمجتمع حرّ بحق، بعيدا عن الانفلات والضياع!
Views: 32