دون تصنيف

التمثيل كفعل وجودي..مقاربة فلسفية في مسرح الطفل العربي

بقلم صفاء الحطاب

التمثيل كفعل وجودي..مقاربة فلسفية في مسرح الطفل العربي
صفاء الحطاب
يولد الإنسان وهو ممثل بالفطرة؛ فقبل أن يتعلم اللغة، يجيد التعبير، وقبل أن يعرف العالم، يبدأ في محاكاته.
منذ لحظة الوعي الأولى، يقف الطفل أمام الحياة كمن يعتلي خشبة مسرح غير مرئي، يقلّد، يتقمص، ويعيد صياغة الواقع وفق خياله النقي.
في تلك اللحظات البدائية من اللعب والاكتشاف، يتجلى المسرح في أصفى صوره؛ فعلاً إنسانياً غريزياً، لا يحتاج إلى ستارة أو زي أو نص مكتوب، بل إلى روح تفيض بالحضور والتجريب.

من هنا تنطلق فكرة هذا المقال التي تتناول مسرح الطفل العربي بوصفه امتداداً لتلك الفطرة الأولى، ورؤية فنية وتربوية تسعى إلى تحويل اللعب إلى وعي، والخيال إلى إدراك.
فالمسرح ليس نشاطاً مضافاً إلى الطفولة، بل هو جزء من تكوينها الطبيعي، ومساحة يكتشف فيها الطفل ذاته والعالم من حوله. لكن هذا الفن، الذي بدأ فطرة، يواجه اليوم تحديات كبيرة في المشهد العربي المعاصر، بين انحسار الدعم، وضعف النصوص، وتراجع الحضور أمام سطوة الوسائط الرقمية.

يعيش مسرح الطفل العربي في مفارقة لافتة؛ فهو في الأصل أقرب الفنون إلى طبيعة الطفل، لكنه أصبح اليوم أبعدها عن اهتمامه.
لم يعد الوصول إلى الطفل سهلاً كما كان؛ فالتقنيات الحديثة سحبت بريق المسرح الحي، وأضعفت قدرة الخشبة على المنافسة.
كما أن النصوص المسرحية الموجهة للطفل كثيراً ما تفتقر إلى الأصالة والجاذبية، إذ يغلب عليها الطابع الوعظي أو الترجمة المباشرة من ثقافات أخرى، مما يفقدها حس الانتماء ويجعلها بعيدة عن وجدان الطفل العربي ولغته وبيئته.

وتبرز بين التحديات أيضاً صعوبة إتقان الممثل للشخصية المتقمّصة في عروض الأطفال، فالتعامل مع جمهور صغير يتطلب صدقاً مضاعفاً ووعياً عميقاً بطبيعة المتلقي.
الطفل لا يُخدع بسهولة، ولا يتجاوب إلا مع الأداء الصادق والبسيط، لذا يصبح التمثيل أمامه اختباراً حقيقياً للموهبة والقدرة على التقمص. يحتاج الممثل في مسرح الطفل إلى الجمع بين الحس التربوي والفني، وإلى فهم نفسي لطبيعة التلقي لدى الصغار، بحيث تتحول الشخصية من مجرد أداء إلى تجربة وجدانية مشتركة.

إلى جانب ذلك، يعاني المسرح من ضعف في الكوادر المتخصصة، وضبابية الرؤية المؤسسية التي تربط الفن بالتربية، إضافة إلى محدودية الدعم المالي والإعلامي.
ورغم كل هذه الصعوبات، لا يخلو الواقع العربي من مبادرات واعدة؛فهناك جهود لإدماج المسرح في التعليم، وإحياء المهرجانات المتخصصة، وتوظيف التكنولوجيا بشكل متوازن يخدم الخيال دون أن يلغيه. كما بدأت بعض التجارب تمنح الأطفال أنفسهم دوراً فاعلاً في الكتابة والإخراج والتمثيل، فيتحول المسرح إلى مساحة مشاركة لا تلقين، وإلى مختبر صغير للحياة.

إن النهوض بمسرح الطفل العربي يتطلب رؤية فلسفية قبل أن يكون مشروعاً فنياً. فالمسرح لا يعيش إلا إذا استعاد روحه الأولى؛ روح الاكتشاف والدهشة واللعب.
علينا أن نعيد للطفل مسرحه الأول، حيث كان يمثل كي يفهم، لا كي يُصفق له؛ وحيث كان الخيال طريقاً للوعي، لا بديلاً عنه.
وحين ندرك أن كل طفل هو ممثل بالقوة، ندرك أيضاً أن المسرح ليس فعلاً فنياً فحسب، بل فعلاً وجودياً يعيد الإنسان إلى جوهره؛ الكائن الذي يتأمل ذاته من خلال ما يؤديه، ويتعلم من دوره معنى أن يكون.

إن مستقبل مسرح الطفل العربي لن يُبنى فقط على النصوص والعروض، بل على وعيٍ جديد يرى في المسرح امتداداً للفطرة الإنسانية الأولى، وجسراً بين اللعب والوعي، بين الفن والحياة.
وفي زمنٍ تزداد فيه العزلة الافتراضية، يبقى المسرح –ببساطته الأولى– المكان الأصدق لاكتشاف الإنسان في داخـل الطفل، والطفل في داخل الإنسان.

Views: 4

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى