د. ضياء الجنابي : القص الشفاهي في تاريخ الأدب العربي
من خلال تتبع الموروث القصصي في معظم مفاصل تاريخ الأدب العربي خصوصاً في عصوره الأولى بدءًا من عصر ما قبل الإسلام وصولاً إلى نهاية العصر العباسي الثالث، يتضح أن الفن القصصي كان فناً قائماً بذاته عند العرب سواءًا في بواديهم أم حواضرهم، ولم يكن الشعر وحده رغم قدحه المعلى هو الفن الإبداعي الوحيد الذي أجادوه، غير أنه لم يكن بادئ الأمر مدوناً وإنما مقتصراً على ترويجه عبر الرواة والحكواتيين، وكان له في المقابل متابعون ومتلقون تتوزع طبيعة اهتمامهم به بين منحيين؛ الأول المتعة والتسلية، والثاني الاستفادة من الحكم والوعظ والاعتبار بالعبر البليغة التي يكتنزها، ومن هذا نستلهم أن ذائقة الإنسان العربي لم تكن محسورة بالشعر كما يروج بعض المستشرقين ومن أخذ برأيهم. ومن يتبنى هذا الرأي سواء من المستشرقين أو بعض الباحثين يرمي من خلال ذلك إلى تجريد العقلية العربية من سمة الخيال ببعده الحقيقي، معتبرين أن الشعر يستعير خياله من اللغة نفسها، فهو تخيل وليس خيالاً، بالتالي فهو عملية لغوية مجردة يكون عنصر الخيال فيها ضعيفاً في أحسن حالاته، في حين أن السرد يسمح بالتمدد خارج كينونة اللغة وخارج قوانين الكتابة ذاتها إلى متسع من الخيال والبناء الفكري المعتمد على التحليل والتركيب وغيرها من التقنيات التي يستكثروها على المبدع العربي المعتمد على موروثه الخاص. إن القفزة النوعية في سيرورة الأدب العربي كانت في عصر التدوين حيث تم تثبيت ما قاله الأولون من شعر ونثر بكل أصنافه؛ الخطب، الرسائل، المواقف، الحكايات والأمثال، إلى جانب ذلك أتيحت أمام المبدعين فرصة كتابة نتاجهم الفكري والإبداعي الخاص على الورق، فتمت مزاولة كتابة القصص وتدوينها كفن مستقل بذاته جنباُ إلى جنب الفنون الأخرى، وخير دليل على ذلك هو فن المقامات وبالذات مقامات الحريري ومقامات بديع الزمان التي وصلت إلينا بصورتها السردية المكتوبة بشكل يتناسب مع ذائقة المتلقي آنذاك، وقد تم تحقيقها من قبل باحثين أكاديميين أكفاء، ويمكن اعتبار المقامات الجذر العربي للفنون السردية سواءًا الرواية منها أو القصة القصيرة، مع الأخذ بنظر الاعتبار عامل الزمن وما يفرضه من تطور على صعيد التقنيات في جميع حقول المعرفة الإنسانية. في خضم ذلك يبرز أمامنا سؤال ملح مفاده: لو استثنينا المقامات باعتبار أن مدونيها معروفون، من هو القاص العربي الذي ألف وكتب بخط يده القصص التي وصلتنا من التراث العربي، مثل حكايات ألف ليلة وليلة وسير الأبطال وكتب النوادر وحتى القصص الوعظية التهذيبية؟.
يقيناً أن كل ما طرح من آراء عاجزة عن الإجابة على هذا السؤال رغم الكثير من البحوث والدراسات الرصينة، لكنه من جانب آخر أكدت الكثير من المصادر أن القصص الشعبية هي نتاج جمعي تراكمي على مستوى الخيال واللغة والذائقة الجمعية يعود إلى عموم الشعب أو المجتمع القائم في عصر ما، مع التأكيد على أن هذه القصص تبدأ عادة بنواة بسيطة تتكأ أحياناً بشكل معين على الواقع وأحياناً تكون محض خرافة أو أسطورة قديمة متداولة ثم تأخذ بالنمو والتطور والتعنقد، وشيئاً فشيئاً تتصاعد وتيرة الحبكة والإثارة في أحداثها وتنضج قماشتها اللغوية، وفي أحيان أخرى تنحى إلى روح المبالغة في التعبير وإجراء بعض التغييرات، وربما إضافة مفاصل جديدة كلما تم تداولها من وسط اجتماعي إلى آخر، ومن مرحلة زمنية إلى أخرى فتتسع وتكبر مثل كرة الثلج المتدحرجة. ومن المهم الإشارة إلى أن النزوع نحو المبالغة مردّه إلى عاملين الأول إرضاء كبرياء الشعب، والثاني معالجة عقد نفسية واجتماعية كامنة في نفوس أبناء أي مجتمع وعلى مر العصور، ومن جانب آخر فإن أدب القص الشعبي يعد ملكاً مشاعاً لعموم الناس وليس هناك حقوق محفوظة لكاتب معين، لذلك بات من السهل أن تمتد إليه يد التغيير بين الفينة والفينة سواء على مستوى الموضوع أو الحبكة الدرامية أو الأسلوب اللغوي، وهذا الأمر لم يقتصر على القص الشعبي في الأدب العربي وحسب، وإنما هي خاصية تشترك فيها غالبية الأمم هنالك قصص في الأدب العربي ظلت رائجة ولم يخبو بريقها على مدى أجيال متتابعة، وعصور متلاحقة مثل قصة عنترة بن شداد على سبيل المثال وقصص الحب العذري أمثال قصص قيس وليلى، جميل وبثينة، عروة وعفراء، توبة وليلى الأخيلية وغيرها، وتوجد الكثير من القصص تحاكي هذا المناخ ولكن بنكهات محلية وأسماء مختلفة في جميع الأقطار العربية تقريباً، بالإضافة إلى ذلك هناك قصص البطولة والمغامرات مثل قصة سيف بن ذي يزن والزير سالم أو سيرة بني هلال بجميع حكاياتها وغيرها الكثير، بحيث بات من الصعوبة بمكان تحديد كاتب أو مؤلف معين لها.
وفي مقدمة القص العربي تقف حكايات ألف ليلة وليلة التي تخطت صعيد الأمة إلى صعيد العالمية، وتمت ترجمتها إلى عشرات اللغات الغربية والشرقية، وتجدر الإشارة إلى أن قصص ألف ليلة ولية تعد أنموذجاً للقص الشفاهي المركب لأنها قد تم تناقلها شفاهياً قبل تدوينها من جهة، ومن جهة أخرى طبيعة بنيتها المركزية التي تعتمد على فكرة القص الشفاهي، وذلك من خلال المشافهة اليومية التي تمارسها شهرزاد وهي تسرد قصصها على شهريار. إلى جانب ذلك ورد في أمهات كتب تاريخ الأدب العربي أن هناك رواة متخصصون على مستوى عال من الحرفية كانوا يمارسون القص الشفاهي سواءًا في بلاطات الملوك والأمراء أو ما يبثونه بين الناس مثل الأصمعي الذي يقول فيه ابن الأنباري أن “الأصمعي يد غراء في اللغة لا يعرف فيها مثله، وفي كثرة الرواية.” بالإضافة إلى رواة آخرين أمثال أبي عبيد وخلف الأحمر وحماد الراوي وابن الكلبي وهؤلاء لهم مصادر بشرية يرجعون إليها للتحقيق في كل شاردة وواردة، وهم ما تم الاصطلاح عليهم بـ “علماء البادية” وكان هؤلاء أوعية العلم والقائمين عليه وكانت أسماؤهم تتردد على أفواه رواة الحضر آنذاك، ولكن للأسف عندما تم تدوين الأخبار والمعارف وتصنيف الكتب والمجلدات نسبت تلك القصص والأخبار إلى رواة الحواضر فعرفنا أسمائهم ولم يتم ذكر أسماء مرجعياتهم من رواة البوادي. ينبغي أن نشير إلى أن الرواية في الاصطلاح العربي القديم لا تعني الإنشاء، فمثلاً قصة عنترة بن شداد وما بها من عناصر التشويق تعزى إلى الأصمعي الذي عاش في أواخر القرن الثاني وبداية القرن الثالث الهجريين، ومن المعلوم أن أحداث وشخوص هذه القصة أقدم زمنياً منه، إذاً لم يكن الأصمعي سوى ناقل وراوٍ ومهذب لها في أحسن الأحوال، كونه كان كثير التطواف في البوادي العربية، يتلقى أخبارها ويقتبس من علومها، وهذا الأمر ينسحب بقدر معين على القصص الوعظية التهذيبية التي ليس من السهل أن نعزي أي قصة منها إلى أديب معين، لأن الذين أوصلوها لنا هم مصنفون وجامعون وليس مؤلفين، وهم يعترفون في مقدمة كتبهم بقلة نصيبهم في الابتكار أو الإنشاء.
نشر أيضا في مجلة الشارقة الثقافية عدد 70
Views: 3