معضلة اكتشاف “تاريخ البشرية” مرتين

بقلم صفاء الحطاب
قد يكون العنوان غريبا، لكنه يستمد غرابته من غرابة وفوضى المعلومات حول التاريخ القديم بتفاصيله وتفسيراته وقراءته، وما يبنى عليها من بحوث ونتائج.
يعرف التاريخ القديم بأنه التاريخ الذي بدأ مع تطور أنظمة الكتابة في الحضارات المبكرة في بلاد ما بين النهرين، ومصر القديمة، ووادي السند، والصين القديمة. ويمتد عبر الزمن الممتد من حوالي 3000 قبل الميلاد إلى 500 للميلاد، ويتضمن تاريخ الإمبراطوريات الكبرى مثل الإغريق، والرومان، والفرس، وشهد ظهور الفلسفات الكلاسيكية، والعلوم، والأديان.
ويتداخل تعريف “العصور الكلاسيكية القديمة” مع “التاريخ القديم” لأنه يعنى بالفترة التي ازدهرت خلالها حضارتا اليونان والرومان القديمتان وحتى منتصف الألفية الأولى، لكنه يبحث حصرا تاريخ منطقة البحر الأبيض المتوسط.
ويدرس علماء الآثار التاريخ ببحثهم في البقايا الحسية والمادية التي أنشأها الإنسان، ويدرسه علماء الإنسانيات واللغويات ببحثهم في النصوص الأدبية والدينية والعلمية التي أبدعها.
وتقسم مصادر دراسة التاريخ إلى مصادر أولية سجلت بالقرب من الأحداث التي يتم سردها، وثانوية تم تسجيلها بعد الأحداث بوقت طويل؛ لذلك تروي النقوش والسجلات التي وثقتها أيدي أبناء الحضارات قبل آلاف السنين عن حياتهم وعلومهم وعباداتهم؛ ودراسة ما تبقى من مدنهم؛ قصة مختلفة وأكثر دقة وعمقا وجمالا عما عرفناه عنهم!
إن المرحلة الأولى من معرفتنا بتاريخ منطقتنا القديم بنيت على ما وصلنا وما عرفنا من روايات منقولة وأخبار لا يمكن التثبت منها مما سجله مؤرخو العصور القديمة، المرافقون لحملات الغزو اليوناني للمنطقة. وكان ذلك غالبا دون تثبت أو نسبة أو نقل للتفاصيل الوصفية والإنسانية بما يسمح للعلماء اليوم بدراسته والبناء عليه.
ثم جاء بعدهم الرومان غزاة للمنطقة، فنقلوا عن اليونان علومهم، وأضافوا إليها، ونسبوا معظم ذلك التراكم الحضاري لأنفسهم. ولا يمكن هنا أيضا التأكد من دقة التفاصيل، والتواريخ المسجلة لتوثيق الأحداث، أو مدى انحياز الرومان.
وقد قدم المؤرخان “هيروديت” و”آريانوس” وغيرهما وصفا ومعلومات محدودة عن حضارات الشرق القديم. وكانت هذه مصادرنا لفهم تاريخ العالم القديم بشكل عام، وتاريخ منطقتنا بشكل خاص.
لقد ظهر أول فكر تأريخي منهجي في اليونان القديمة ابتداء من كتابات المؤرخ هيرودوت 484ق.م، ووصل إلينا معظمه عن طريق حركة الترجمة النشطة في بغداد والأندلس في أوج ازدهار الحضارة الإسلامية. وكامتداد طبيعي للخط الحضاري الإنساني؛ تمكن العلماء المسلمون من الاطلاع على بعض علوم الحضارات القديمة، ثم قاموا بتطوير بعض جوانب تلك العلوم والاختراعات والنظريات الرياضية والتطبيقات العملية.
ومن المفارقة أن أول محاولة لفتح الهرم الأكبر في مصر، والعبور إلى داخله لكشف أسراره كانت في زمن الخليفة العباسي المأمون، بناء على نصوص يونانية مترجمة طرحت فرضية احتوائه على كنوز ومجوهرات.
أما المرحلة الثانية والمهمة من اكتشاف التاريخ القديم لحضارات المنطقة فقد وصلت إلينا على أيدي البعثات الاستكشافية الاستعمارية الجديدة، والبحث العلمي الآثاري الذي قامت به. فقد توالت اكتشافاتهم لكنوز هائلة، ومدن كاملة، ونقوش تمكن الباحثون من دراستها والربط بين أجزائها للوصول إلى تصور متكامل، يتعارض مع الكثير مما وصلنا سابقا عن ماضي المنطقة.
لقد وفرت لنا هذه المرحلة تفسيرات لبعض ما تعذر فهمه من قبل، وقدمت تفاصيل عن علوم متطورة نقلت ونسبت لغير أصحابها. ومن الأمثلة الحضارة الآشورية، والحضارة المصرية القديمة، المغرقتان في القدم، فقد كان لكل منهما منهج علمي توثيقي في التأريخ. أما الأنباط كشعب من شعوب المنطقة فقد اكتشفنا التراكم المعرفي والحضاري الذي عاشوه قبل ومع وصول اليونان. لقد تأكد لنا بالإثباتات المادية أن هذه الحضارات كانت في تطور حضاري وإنساني ومادي وعلمي وهندسي مدهش.
ومن الأمثلة التي قد تكون نموذجا صارخا؛ نظرية فيثاغورس المعروفة. التي أثبتت الدراسات الآثارية للقى والنقوش الآشورية بأن تلك الحضارة عرفت هذه النظرية، وتوصل إليها علماؤها، ووضعوا قواعدها وتفاصيلها قبل فيثاغورس اليوناني بألف سنة تقريبا!
ومع أن خط الحضارة الإنسانية متصل، إلا أنه من الضروري فتح باب التحقيق، إن جاز التعبير، في قضية التاريخ القديم. فالأدلة الجديدة تؤكد ضرورة إعادة تركيب قطع رواية التاريخ القديم في سياق متكامل بناء على الاكتشافات الحديثة لمحاولة إعادة تشكيل الصورة وترتيب الخط الزمني للتراكمية الحضارية للمنطقة.
إن كل من يحاول الولوج إلى عوالم الحضارات القديمة، يواجه معلومات متضاربة وغير منطقية. ويجد تناقضا بين ما تتناقله الكتب المعتمدة على مصادر التاريخ القديم، والمصادر التي تعتمد على نقوش تلك الحضارات وسجلاتها المحفوظة في المتاحف والدراسات المرتبطة بها مباشرة.
ونحن بحاجة أن يقوم المتخصصون ببذل الجهود للفصل بين الرواية القديمة ونتائج الدراسات البحثية الحديثة؛ لتكوين صورة واحدة متكاملة الجوانب عن جزئيات الحضارات القديمة حتى يمكننا فهمها ثم البناء عليها.
Views: 47