كتاب

رواية يوميات مريم ..(نتذكر فنفوح عطرا )


مروان العياصرة

وأنت تقرأ رواية ( مذكرات مريم ) للروائية صفاء الحطاب، تذكَّر – مثلا – أن هنالك رواية لـ (جان جاك روسو )، ( هلويز الجديدة ) .. والتي قال عنها (مارشال بيرمن ) في كل ما هو صلب يتحول إلى أثير، أن ( البطل الشاب ( سان برو )، ينتقل من الريف إلى المدينة، يكتب لعشيقته دهشته ورهبته باعتبار المدينة صراخ دائم بين جماعات، تدفقا معاكسا أبدا للأهواء والأمزجة والأفكار المتضاربة، الجميع يتناقضون مع أنفسهم، وكل شيء سخيف وعابث ).. فهذه صورة من صور النظر للمدينة، باعتبارها كل ما سبق، وربما لدى البعض أكثر من ذلك في توبيخ المدينة،

وعلى العكس تماما.. ( صفاء حطاب )..
في روايتها للفتيان بعنوان ( يوميات مريم .. ذاكرة فتاة ريفية )، تعكس المشهد، وأنا أقرأ الرواية، شعرت بأن تلك الفتاة الريفية مريم، تقول لي كثيرا من الأشياء الجميلة، أقصد أنها كانت تقول لي في كل يوم هناك ما سوف تحبه أكثر من اليوم الذي قبله، على عكس المدينة التي أعتقد أنه يصلح معها عبارة من نوع ( لا أعرف هذا اليوم ما سوف أحبه في اليوم التالي)..

وأنا أقرأ، تذكرت مثلا أول مره شاهدت فيها التلفاز
تذكرت كيف كنا نذهب إلى الجبل لنجمع الحطب، تذكرت القطة التي كانت تندس تحت غطائنا ونحن ننام على سطوح البيوت نراقب النجوم ونحاول عدّها، تذكرت جدّي، وقد جعل لي يوما ولابن عمي يوما نستيقظ باكرا جدا، قبل الديك، لنضع العشب للحمار .. كان حمارا مدللا ووقورا ..وكنا مشاغبين جدا، وكان الحياة على تعب، لكنها جميلة وشهية، تذكرت أشياء كثيرة، كأشياء صفاء الحطاب، أقصد (مريم)..

في ( يوميات مريم )..
أقرأ كما لو أنني أتجسس على ذكرياتي، أو أسطو على قصص وحكايات عن القطط التي تنجب صغارها في الحواكير، والخراف التي تعود للمساء تعرف الطريق إلى بيتها، مثلنا تماما حين كنا نخرج من المدرسة نتسرب في الأزقة والطرق الترابية الضيقة إلى البيوت..
أقرأ دون أن يفسد انتباهي وشغفي شيء..

أقرأ كما لو أنني أتذوق الكلمات، وكما لو أنني أفتقد قطا وعصفورا وخروفا وحمارا، ولعب وتعاليل ومواويل الجدات القديمات، وكائنات جميلة تملأ ذاكرتي.. ربما في كل واحد منا ذاكرة مثل ذاكرة مريم، وهذا زخم مجاني من الشغف، تمنحنا إياه الحياة..

كان للصيف طعم آخر، للشمس، للصباحات، للمساءات، لرائحة التراب للتو بلله مطر خفيف، ثمة شيء سرّي في هذه الرائحة، شيء لا أعرف كيف أقوله، إنني أحسه فقط، أتنفسه، كما تقوله يوميات مريم ( حيث تتنفس الأرض حكايات ) ويخفي الطين الأسرار..

رواية للفتيان،.
لكنها لي أيضا وقد بلغت من العمر عدد سنوات خمسة فتيان ..
وأنا على يقين، وأنت تقرأ هذه الرواية ستكتشف أنك مازلت فتىً بإمكانه أن يصحو مبتسما، كل يوم..
نحن في ذاكرتنا التي تشبه ذاكرة مريم، فتيان القرى القديمة، بالصباحات القديمة والليل القديم، والأحلام القديمة، والتراب القديم والمطر القديم، والشوارع القديمة التي لم تُتعب أقدامنا أبدا، ونحن نمشيها كما تمشي الموسيقى على الأوتار، لكننا صرنا عواجيز المدن، ونحن في عزِّ العمر..

صحيح أن في المدن سينمات ومسارح ومتاحف ومولات وشوارع واسعة وأضواء، لكنها تبدو كعقاب، أما ذاكرتنا، وكل ما في ذاكرتنا، فهي هدايا لا تذوب دهشتها أبدا،

الحياة لا تمنحك فرصة أن تعود طفلا، تأكل وتلعب على العشب مثل قط سعيد.. إلا من نافذة الذاكرة، حتى حين كنا نحزن، كما قال أحدهم ( أحزن كوردة، فأفوح عطرا ) ..
نتذكر ضحكا بريئا وطويلا مثل شلال سعيد ..

نتذكر طيارات الورق وزوارق الورق، وسيارات كنا صنعناها من أسلاك وعلب سردين
ونتذكر الحجلة والكومستير والزقطة، وأسماء لا تعني إلا لنا أنها الأشياء التي لا تتلوث،
هذه الرواية لـ ( صفاء الحطاب ) .. تماما تجعلنا نتذكر، فنفوح عطرا
وتعلمت من الرواية، أن مهمتنا في الحياة أيضا.

أن لا نعيش، فيذهب كل هذا الـ ( عَيش ) إلى المجهول، مهمتنا أيضا في الحياة أن نعيش ونتذكر، أن نعيش ونروي، أن نعيش بذاكرتنا القديمة، ذاكرة الزمن الجميل، لنواجه بها ذاكرة الزمن الرديء.. هذه رواية لي وللفتيان، أنا الفتى الذي كنته يوما ما، وصرت الآن أتذكره.

Views: 61

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى